عن الحافظ الجهبذ وكيع بن الجراح
الساعة 06:37 صباحاً

 
 يعد الحافظ الجبهذ وكيع ابن الجراح من كبار محدثي العرب، نشأ في الكوفة، واجتهد في طلب العلم من صغره، ولزم شيخه سليمان الأعمش التابعي المشهور سنين عديدة، وكان شيخه سفيان الثوري يدعوه وهو غلام، فيسأله عما حفظ من الحديث، فيقول وكيع: حدثني فلان بكذا، وحدثني فلان بكذا، فيتبسم سفيان ويتعجب من حفظه، وقال: لا يموت هذا الغلام حتى يكون له شأن، فلما مات سفيان الثوري جلس وكيع مكانه. قال أحمد بن حنبل: كان وكيع غلامًا كيِّسًا، يطلب العلم من صغره، ما رأيت أحدًا ممن أدركنا كان أحفظ للحديث من وكيع، سبحان الله! ما كان أحفظ وكيع! بلغ عدد شيوخ وكيع بن الجراح 360 شيخا، منهم شُعبة وسفيان الثوري اللذان يُلقب كل واحد منهما: أمير المؤمنين في الحديث، ومن مشايخه اثنان من القراء السبعة: أبو عمرو بن العلاء البصري وحمزة الزيَّات الكوفي، ومن مشايخه: الإمامان أبو حنيفة ومالك بن أنس، ومن طلابه: الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل، فاثنان من الأئمة الأربعة من مشايخه، واثنان من طلابه! قال الذهبي: وكيع بن الجراح الإمام، الحافظ، محدث العراق، أحد الأعلام، كان من بحور العلم، وأئمة الحفظ. قال محمد بن سعد: كان وكيع ثقة، مأمونا، عاليا، رفيعا، كثير الحديث، حجة. وقال عبد الرزاق الصنعاني: رأيت الثوري، وابن عيينة، ومعمرا، ومالكا، فما رأت عيناي قط مثل وكيع. *** وكان وكيع ممن جمع بين العلم النافع والعمل بالعلم، فكان مجتهدا جدا في العبادة، ولم تشغله العبادة عن إتقان حديثه وتعليم الناس. قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذا، وكان يصوم الدهر، ويفطر يوم الشك والعيد. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم، والحفظ، والإسناد، والأبواب، مع خشوع وورع، وكيعٌ إمام المسلمين في زمانه. وقال الزاهد المشهور أحمد بن أبي الحواري: ما رأيت فيمن لقيت أخشع من وكيع. وقال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعا في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة! قال الذهبي معلقا على هذا الخبر العجيب: هذه عبادة يُخضع لها، ولكنها من مثل إمام من الأئمة الأثرية مفضولة، فقد صح نهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يسر، ومتابعة السنة أولى، فرضي الله عن وكيع، وأين مثل وكيع؟! قلت: ولعل قراءته للمصحف في كل ليلة كان في بعض عمره، فقد قال يحيى بن أيوب: حدثني بعض أصحاب وكيع الذين كانوا يلزمونه: أن وكيعا كان لا ينام حتى يقرأ جزءه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل، فيقرأ المفصَّل، ثم يجلس، فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر. *** قال يحيى بن معين: ما رأيت أحدا أحفظ من وكيع، وما رأيت أفضل من وكيع، قيل: ولا ابن المبارك؟! قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم. وقال أبو حاتم الرازي: وكيع أحفظ من عبد الله بن المبارك. وقال إسحاق بن راهويه: رأيت وكيعا استند وحدَّث بسبع مائة حديث حفظا! وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، كان وكيع حافظا حافظا، ما رأت عيناي مثله قط، كان مطبوع الحفظ، يحفظ الحديث جيدا، ويذاكر بالفقه فيُحسِن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد. وقال علي بن خشرم: ما رأيت بيد وكيع كتابا قط، إنما هو حفظ، فسألته عن أدوية الحفظ، فقال: إن علَّمتُك الدواء استعملته؟ قلت: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربتُ مثله للحفظ. ويروى عن الإمام الشافعي أنه قال: شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ... فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَقَــالَ اعْــلَــمْ بِأَنَّ الْعِــلْمَ فَضْــلٌ ... وَفَضْــلُ اللَّهِ لَا يُــؤْتَــــاهُ عَاصِي وكان طلاب العلم يرحلون إلى وكيع في زمانه، وكانوا في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر وكيع من أمرهم شيئا قام ولم يحدثهم، وعدد طلاب وكيع 263 راويا كما يُعلم من كتاب تهذيب الكمال للمزي. قال سفيان بن وكيع: كان أبي يجلس لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف فينام القيلولة، ثم يصلي الظهر، ثم يُعلِّم العامة من القرآن ما يؤدون به الفرض إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، فيُقدَّم إليه إفطاره، وكان يصلي ورده من الليل ثم ينام. *** وكان وكيع مع علمه بالقرآن والحديث فقيها مفتيا، قال العجلي: وكيع ثقة، عابد، صالح، أديب، من حفاظ الحديث، وكان مفتيا. وكان وكيع يتجنب العمل مع السلاطين الظلمة خوفا من أن يعينهم على ظلمهم وأن يركن إليهم. قال محمد بن علي الوراق: عُرِض القضاء على وكيع فامتنع. *** والأحاديث التي رواها وكيع بن الجراح كثيرة جدا، وهي محفوظة في كتب الحديث الستة المشهورة: صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهؤلاء الأئمة الستة يروون عن وكيع بواسطة راوٍ واحد، وقد ذُكِر وكيعٌ في هذه الكتب الستة، وفي مسند تلميذه أحمد بن حنبل ومصنف تلميذه ابن أبي شيبة ما يقارب عشرة آلاف مرة. ونختم ترجمة وكيع بن الجراح بذكر حديث واحد من أحاديث وكيع من صحيح مسلم: روى مسلم (588) عن أربعة من مشايخه وهم: نصر بن علي الجهضمي، وابن نمير، وأبو كريب، وزهير بن حرب، وكلهم من طلاب وكيع، رووا كلهم عن وكيع بن الجراح قال: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة، قال الأوزاعي: وعن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)). ثم ذكر الإمام مسلم طرقا كثيرة لهذا الحديث عن أبي هريرة، ثم ذكر مسلم متابعة عائشة وابن عباس لأبي هريرة في رواية هذا الحديث، وقد روى المحدثون هذا الحديث من نفس الطرق التي ذكرها مسلم ومن طرق أخرى غيرها. مَا الْفَخرُ إِلاَ لإهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ ... عَلىَ الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاَءُ وَقَــدْرُ كُـلِّ امْـــــرِءٍ مَا كَانَ يُحْسِــنُهُ ... وَالْجَـــاهِلُــونَ لأَهْلِ الْعِـلْمِ أَعْــدَاءُ توفي وكيع بن الجراح رحمه الله بين مكة والكوفة وهو راجع من الحج سنة 197 هجرية وعمره 68 عاما تقريبا.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان