مطرح لله، مكان للرب.
الساعة 05:47 مساءً

 
بالدرجة الأولى خسرنا إحساسنا بالأمن، وسيستمر هذا الخسران لزمن طويل. فقدان الأمن هو أسوأ "الأوبئة" على الإطلاق، ولا معنى للنهر والسماء الزرقاء إذا كان الخوف حاكماً. المعامل لا تقدم وعداً بمعالجة هذه الخسارة. يردد علماء الوبائيات: هناك أوبئة قادمة. في العقود الثلاثة الماضية ضرب، بالمعدل، قرابة 300 وباء جانباً من الأرض كل عام، على نحو متصاعد. شوهد، إحصائياً، تزايد عدد الأوبئة من عام إلى آخر. في آخر المطاف فقد الإنسان إحساسه بالأمن، وبدا له كل شيء مجوفاً من الداخل. اعتمدت الديكتاتوريات، كما العصابات، على دالة الأمن/ الخوف لفرض إرادتها وسلطتها، هكذا على مر الأيام. إذا فقد الإنسان الأمن فإنه يبيع أشياء كثيرة، منها: الحرية والعقل. ويشتري أموراً يصعب عليه شراؤها في أيام الرخاء، في مقدمتها: الخضوع. قالت دراسة نشرت قبل عامين: ثمة علاقة عكسية بين كفاءة الأنظمة الحاكمة والإيمان بالخالق. في الدول التي تديرها أنظمة رخوة، ويعرف الناس أنها رخوة، يزيد الإيمان بالخالق، مقارنة بمواطني الدول ذات الأنظمة السياسية والإدارية الفاعلة. ما يجعلنا نطرح هذا الافتراض: الإيمان أكثر شيوعاً في مصر منه في السويد. لنأخذ هذا المثال، لتعزيز الفرضية: وفقاً لمركز بيو سنتر فقد قال أقل من 50% من السويديين إنهم يؤمنون بوجود خالق يدير الكون. وفي آخر انتخابات حرة جرت في مصر حصلت ثلاثة أحزاب إسلامية على حوالي 86% من مقاعد البرلمان. الدولة المستقرة، التي يمثل القانون حقيقتها، حلت مطرح الإله. في مصر التمس الناخبون، الخائفون وفاقدو الأمل، من "الله" الحضور لإعادة وضع الأمور في نصابها. لو أن ذلك الشكل من الحياة النيابية استمر مستقبلاً فإن التيارات الإسلامية كانت ستعيش أوضاعاً صعبة مستقبلاً، بعد استقرار الدولة وظهور القانون. كما جرى في التاريخ سيترسخ القانون ومعه الأمن، وسيتنحى الإله جانباً، بعض الشيء. كان الأبناء سينسون محنة الآباء مع الأمن، وستختلف اختياراتهم .. علينا أن لا نتورط في تقديم تعميمات شعبية، ليس ذلك بالأمر الجيد في هذه الساعة. فقدنا الأمن، نعم حدث هذا. سيستمر الفقدان مستقبلاً. ما الذي سيحدث؟ اللقاح الموعود، ادعاءات العلم، الصوت العالي للعلموية المرتبكة .. كل ذلك قد يجد الطريق إلى لقاح للفيروس، أو علاج جزئي للوباء. في النهاية، كما حدث مراراً، سيتلاشى الوباء. بيد أن الخوف، الصدمة، سيدومان. ليس من السهل استعادة كل "الأمن" من خلال لقاح أو عقار فقدان الأمن سؤال آخر، هو سؤال الرب. أجرى بيوسنتر مسحاً من أجل رسم خريطة للادينية. داخل الكتلة التي خضعت للاستطلاع، قرابة 1100 شخص، جاءت النتائج على هذا الشكل: اللادينية تبدو أكثر انتشارا بين الشبان، الأغنياء، الرجال، الجيل الثالث من المهاجرين .. مقارنة بنظرائهم، بهذا الترتيب: [40% مقابل 9% ـــ 30% مقابل 24%ــ 68% مقابل 32%] ــ [74% مقابل 13%]. القوة، المال، الثقة بالحداثة تبعد المجتمع عن فكرة الخالق. ورث الأوربيون مقولة: لا ملحدون في الخنادق. من حفر الخنادق مرة أخرى؟ كورونا؟ وباء كورونا هز كل هذه الجذور، وخلق الخوف. الأمن هو البعد المركزي الذي تقوم عليه حضارتنا. فالعولمة الفائقة حدثت عندما اعتقد العالم، النخب والعلم معاً، أن الكوكب صار أبعد ما يكون عن مخاطر مدمرة عابرة للمحيطات [مثل وباء مدمر أو حرب مدمرة]. تتردد مقولة ألمانية شعبية "لماذا وضعنا أعناقنا في بكين؟". اهتز هذا اليقين، الثقة بالحداثة بوصفها بديلاً شاملاً عن فكرة الخالق، وبحسبانها الإجابة. كبار السن، في أكثر من مسح وفي أكثر من فترة زمنية ومكان، كانوا أكثر ميلاً للالتصاق بفكرة الله. فقد عاشوا في فترات مختلفة من عهود الدولة الرخوة، الأوبئة القاتلة، الحروب، والفقر. لقد تعلموا أنه ليس من الحكمة هجران الرب على نحو كامل، ثمة وحش مدمر وهو كامن دائماً في مكان ما، قد يأخذ شكل موجة أو معركة أو .. وباء. يمكننا ترتيب الوباء الراهن على هذا النحو: فقدان الأمن، المرض/ الفيروس، والانهيار الاقتصادي/ احتمال الفقر. كورونا وباء شامل، مدمر على المستوى الفردي والكوكبي. لكن الخسارات الشخصية تأتي على هذا الترتيب، يحل فيها الفيروس كمرض ثانياً، بعد انهيار الأمن الشخصي. يقدم العلم وعوداً، وتطرح سياسات الاحتواء استراتيجيات، كل ذلك يهدف إلى الحيلولة دون أن يفتك الفيروس بالحياة الفردية. ماذا عن فقدان الأمن؟ عن الإحساس المر بهزيمة الحضارة أو بكونها عرضة للهزيمة بأي وقت؟ جاء الرب، حضر الإله. سيملأ الفراغ، أو هو الفراغ المخصص له منذ الفجر الأول. يعيش الله في الأماكن المظلمة، قيلَ كثيراً. وكلما أحيط الإنسان بالظلام كان أكثر استدعاء للإله، لله. بدد العلم الحديث جزءاً ضخماً من ظلام الكوكب، وقهقهنا جميعاً عندما اكتشفنا سذاجة خوف الأسلاف، فما من برمودا ولا من عرش للشيطان. سرعان ما باغتنا العلم باكتشاف ظلام دامس ولانهائي: الكون. عاد الإنسان ليسأل نفسه: يبدو أن ثمة إله بالفعل، وأنه من سبيل لتبديد كل ذلك الظلام. هكذا تجري حياتنا، على شكل موجي، مترددين بين الإله والعلم، يتحكم الخوف بدرجة ترددنا. قبل مائة عام قال الإنسان: وهكذا جاء هذا الجهاز، التلفاز، وسيقضي إلى الأبد على المسرح. لا شيء يقضي على الآخر في هذه الحياة، حتى موضة الستينات عادت بأغلى الأثمان، ولا يمكننا الآن أن ندفع ثمن سيارة صنعت في أربعينات القرن الماضي. ذلك ثراء لا يقدر عليه سوى قلة. أنا رجل أنتمي لمدرسة علمية، أجاهد كل الوقت من أجل إبعاد نفسي عن الغيب. تشغلني، في مسألة كورونا، مهمة الحفاظ على الحياة، وفي المقام الثاني أن يؤدي الوباء إلى انهيار في اقتصاد العالم وانفجار الجوع. الجوع أي: الجريمة والصراع. لكن رجلاً قرأ أمامي بالأمس "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا"، فأفزعني. قال، بغرور المؤمن: رجل في صحراء قبل زمن طويل تخيل مشهدا كهذا. أتساءل ما الذي سيحدث لمن هو لصيق بالإله، للذين أبعد قليلاً، للأبعد، للإنسان وهو يرى الحداثة تقدم له حلاً وحيداً: اجلس في منزلك، لا تخرج. قالت البيانات القادمة من نيويورك إن نسبة الوفيات بين مرضى كورونا الموضوعين على أجهزة التنفس الاصطناعي 80%. حتى تلك اللعبة، لعبة أجهزة التنفس، التي نوقشت على المنصة الدولية بوصفها المسدس الذي سيقتل الفيروس .. لا تعمل، أو بالكاد تعمل. على هذه المنصة، حيث الأمن الفردي هو أكبر الخاسرين، ينهض "رجال الإله"، تنهض الفكرة من جديد وتستعيد شكيمتها. كثيرون من الذين يعلقون على ما أكتبه، أو يشاركونه، يضعون هذا النص: ليس لها من دون الله كاشفة. الإله يملأ الفراغ، أو يقدم الإجابة. عاد الغموض إلى العالم وعاد معه الإله. هذه المعادلة كلاسيكية ونعرفها جيدا. المحاربون يربّون اللحى ويصلون. يفعلون ذلك لأنهم قد يموتون بأي لحظة، وبعد أيام في المعركة يتوقفون عن الهتاف لأجل الوطن والكرامة ويهتفون لأجل الله [المناضلون السوريون الذين خرجوا من أجل سوريا ديموقراطية تحولوا، خلال أشهر، إلى مجاهدين توزعوا على قرابة 1500 فريق مجاهد. لقد رأوا الموت بغزارة، وكان الله، وليس الوطن، هو المكافئ الموضوعي للخوف]. السخرية من الإيمان ومن المؤمنين، من التفسيرات الإيمانية للظاهرة، هو سلوك يدعو بالفعل للسخرية. ثمة أمران طائران يحتاجهما هذا العالم، الآن: الله، ثم اللقاح. يحتاج الله لأن المزيد من الخوف سيعقد كل شيء، هذه الحضارة تمضي إلى الأمام لأن إنسانها تحرر من خوفه، لأنه أحب هذه الأرض وأحب فكرة الحياة عليها، أحب نساءها والعكس، وأحب فصولها وكرة القدم فيها. الخوف الرهيب الذي يعززه انهيار الحياة الجماعية هو ضربة قاتلة لحياتنا الحديثة. لم نشهد من قبل، بالمطلق، لحظة زمنية عاش فيها الإنسان في كل القارات الخوف نفسه من العدو نفسه في الوقت نفسه. هذا ظرف غير مسبوق، العلم والسياسة والإنترنت، كل هذا لن يحتوي الخوف الشامل. للإله دور، أن يسكّن هذا الخوف كما فعل دائماً. ثم ستمضي الحياة من جديد، سيأتي اللقاح، سننسى الموتى، ثم سننسى اسم الفيروس، ثم سننحي الإله، وسيأتي الأبناء وسيكونون أقل إيماناً منا إلى أن يحدث وباء جديد. ستدور الحياة على هذا الشكل، كما تجري منذ ملايين السنين. ثمة عناصر ثلاثة في هذه الدّالة الدّوارة: الله، الخوف، الإنسان. يحدد الخوف علاقة الطرفين الآخرين ببعضهما، وتهبط الحضارة في شلالها اللانهائي كما تفعل منذ القدم.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان