مشرب الزحف العربي
الساعة 09:33 صباحاً

هكذا كان اسمه حين عرفته طفلا في عدن ، و مايزال حتى اليوم يحمل الاسم نفسه، و بنفس رسم الخط الذي كان عليه حين رأيته طفلا أول مرة.

   مشرب الزحف العربي محل يقدم عصير الليمون و الثريب مع بعض الوجبات الخفيفة ، في حي الشيخ عثمان بعدن، ضمن المحال التي تقع في الدور الأرضي لمسجد النور، و على الجانب الأيسر من قبلة المسجد.

 

  منذ أيام خلت، زرت عدن الجميلة العاصمة المؤقتة  و كلما زرتها تستهوي نفسي أن أزور مسجد النور و حواليه؛  فحي الشيخ عثمان كان أول مكان وطئته قدماي حين قدمت إلى عدن، و لأيام الطفولة مخزون من الذكريات لدى كل إنسان. إلا أن الزمن الذي يقف بك وجها لوجه أمام  ذكريات الطفولة فكأنما يقف بك أمام قريب حبيب كلما تكرر اللقاء بين حين و آخر !

    أذكر تماما أنني عندما غادرت قريتي في الشمايتين تعز، أول مرة إلى عدن للدراسة، وصلت بنا السيارة إلى الشيخ عثمان بعد صلاة العشاء،و بعد سفر نصفه على ظهر الحمار، و النصف الآخر على السيارة.

 

   كان ذلك اليوم هو أول مرة أرى فيها سيارة ! صحيح أن ثورة 26 سبتمبر كانت قد اندلعت؛ لكن بؤس الإمامة كان أكبر من أن تنهي الثورة كل المخلفات الإمامية البائسة التي حرّمت على اليمنيين التعليم فلا مدارس، ولا طرق، و بالتالي فلا سيارات... و كذا كان غياب سائر الخدمات، و فوق ذلك وقفت الفلول الإمامية مدعومة من الاستعمار و أدواته تحارب الثورة، التي كان عليها أن تدافع عن النظام الجمهوري بيد، و تقدم ما استطاعت إليه سبيلا من خدمات باليد الأخرى.

   و لذا بدأ التعليم من نقطة الصفر في المدن ناهيك عن الأرياف التي لم تصلها المدارس إلا بعد سنوات. من هنا كانت وجهتنا عدن لنيل التعليم ، حيث عمي عبد الله شقيق أبي الذي تولى تربيتي و تعليمي؛ لأن أبي كان قد قضى في المهجر و أنا في العام الأول من عمري.

 

   يلذ لي الحديث عن عمي عبدالله محمد عقلان، وفاء له أولا،و كنموذج لكل عم يجد ابن أخيه، أو بنت أخيه، قد أدركهما اليتم، أحدهما أو كلاهما.

   عشت في كنف عمي، فبحنانه و إشفاقه و رعايته لم أشعر معه بيُتْمٍ أبدا، و لم تكن عمتي التي هي زوجته أقل منه عطفا و حدَبا و رعاية، و كان تعلقي بها شديدا.

   اتحدث عنهما لأنني أريد أن أقدم نموذجين فريدين، عَمٌٌ - برغم فقره - احتضن ابن أخيه تربية و تعليما، و تزويجا، و كان كأحد أولاده بل أحب.، و كذلك كانت عمتي بالدرجة ذاتها ، رحمهما الله جميعا.. مرة أخرى أكتب هذا تحفيزا لكل عَم أو جدّ، أو أخ كبير.

 

    نزلت عدن طفلا لعدم وجود المدارس في بلاد ما كان يعرف بالشمال،  إذ ضرب الحكم الإمامي المتخلف أسوار الحرمان على البلاد.

   و اليوم يعمل الإماميّون الجدد بكل وسيلة لاستعادة ذلك الحرمان، فها هم اليوم يحاربون العلم و التعليم، و بكل شراسة و خبث. و ها نحن نرى حرمان المعلمين من مرتباتهم منذ أكثر من ثماني سنوات، و كذا أساتذة الجامعات.. و غيرهم من الموظفين، و ماتزال النزعة الاستعمارية و أدواتها تمدان أعداء الحياة الحوثيين بكل سبل الإبقاء على الظلم و التجهيل والمرض،و الدمار ..!! 

   وصلنا عدن بعد سفر مُضْنٍ، و ما أن رأيت أضواء المدينة و انتشار السيارات حتى أبهرني المنظر، و أدهشني ما أرى؛ لذلك استجبت مسرعا لرغبة زميل لي من القرية كان قد سبقني إلى عدن، في أن أخرج معه في تلك الساعة،  و مشى بي إلى أحد المحال التي تقع تحت  مسجد النور، و كان على مسافة قصيرة من المنزل الذي وصلنا إليه، فقدم لي أحد الأقارب ممن كان يعمل في محل للملابس سروالا و قميصا مستبدلا بهما الثوب الذي كنت أرتديه.

 

   على بضعة أمتار من هذا المحل كان مشرب الزحف العربي، الذي كانت أناشيد الثورة تصدح منه: أنا الشعب زلزلة عاتية.. جمهورية و من قرح يقرح.. وغيرها من الأناشيد.

   كل ما مضى من حديث دار في ذهني، و أنا أتناول عصير الليمون في مشرب الزحف العربي، الذي هو اسم المحل، و الذي مايزال الخط برسمه يوم رأيتهما طفلا، إلا ما يتجدد به من طلاء، كنت قد قرأت في المعلامة في القرية ثمانية عشر جزءا.

   ما شدني إلى الوقوف متذكرا،هو أن المحل  مايزال كل ما فيه،كما كان؛ بكراسيه، و بلاطه، و صور السلال و جمال، و قرون وعل، بل و مايزال أبناء صاحب المحل،و أحفاده يمتلكون المحل، و قطعا مايزالون ينتظرون ما كان ينتظره أبوهم، و جدهم من زحف عربي !

 

   و لئن عجز النظام العربي اليوم عن الزحف، فلابد أن تزحف الشعوب يوما نحو مجدها و حريتها، و تنتصر على مخططات الاستعمار و أدواته ، فالشعوب قدر الله في أرضه كما يقال،و كما قال أبو القاسم الشابي:

 

     إذا الشعب يوماً أراد الحياة   فلا بد أن يستجيب القدر

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان