دردشة بإيقاعات حزن مصادر
الساعة 01:52 مساءً

كتب – د.ياسين سعيد نعمان.

“إدّكر بعد أمة ” ، فقرر أن يزور صديقه القديم ،الذي كان يمضي بقية عمره في منزله المتهالك الواقع في حارة ضيقة من حواري المدينة القديمة .

جاء ليعزيه ويواسيه في وفاة ابنته الوحيدة في حادث سير أثناء خروجها من المتجر الذي تعمل فيه .

ما إن وطأت قدماه الحارة ، حتى طوقته الذكريات ، وأخذ شريطها يعرض أمامه صوراً من ماضي حياته فيها ..في حين هبت نسمة هواء محملة بعبق ورطوبة البحر ، حيث تعود أن يمضي جانباً من النهار على شاطئه الصخري ، يصطاد الحبار واسماك القد والبياض والسولفيش والخمبقات وغيرها من الاسماك التي تتواجد بكثرة على الشاطئ ، تهرب من الأعماق خوفاً على حياتها من الاسماك الكبيرة لينتظرها الصياد هناك حيث الأمان .

كان صديقه قد تقاعد ، أو بالأصح ، سُرح من عمله كمدير في أحد المصانع التي جرى تخصيصها عشوائياً ، وأجبرته الظروف على العمل العضلي متنقلاً من مكان إلى آخر حتى استهلكه هذا العمل الشاق ، واستنزف قوته ، مع ما عاشه من معاناة وأحزان شتى .

-اعذرني يا صديقي ، شغلتني عنك الحياة ومآلاتها . أعزيك في وفاة “منال” ، فجعت بالخبر .. “منال” التي كانت تملأ الأمكنة ، التي طالما جمعتنا ، بالبهجة والشقاوة ، خاصة وهي تقلد احمد قاسم في أغنيته “يا عيباه”! أو صوت المذيع التلفزيوني با حكيم وهو ينهي برامج السهرة بصوته الشهير ” تصبحون على خير ” ، أو خطابات علي عنتر وهو يردد ” يا عويله ما حد منكم يعتقد إننا حصلنا هذا الاستقلال هبة .. ” !!

انتظر أن يرى الدموع تنهمر من عيني صديقه ، لكنهما أخذتا تشعان كصخرة انعكست عليها الشمس في يوم هجير .

تبسم صديقه في مشهد لم يتوقعه ، وقال:

-با تعدي يا صاحبي  .. زي ما عدى قبلها الكثير . تنهد ، ثم واصل :

الأيام تطوي الآلام والأحزان أسرع مما تصور .. ربما لأنها صارت تتكرر في حياتنا بسرعة ، ويا دوب الزمن يقدر يلاحقها !! لم تعد هناك مساحة كافية في القلب للمزيد من الأحزان ، لم أعد قادراً على أن أحزن ، فتشت عن بقعة في الجسم استقبل بها الحزن ، فلم أجد .. كل المساحة مشغولة . وحتى عندما تتوفر أحياناً مساحة بسيطة للحزن في مكان ما من الروح ، سرعان ما يعقبه حزن آخر يغطي عليه ، حتى الألم لم يعد يجد مكاناً يستقر فيه بعد أن غطت الجراح كل بقعة في الجسم . نحن أشبه بشخص مصاب بمرض قاتل وعلى هامشه يصاب بأمراض أخرى . بإمكانك أن تعتقد أن كل هذه الجراح والأحزان والآلام قد صلّبتنا ، لكن الحقيقة هي أنها أخمدت فينا الحياة .. ولو أن الزمن لم يفعل فعله وأغلق مساحات الحزن والألم على هذا النحو ، هل تعتقد أنني كنت قادراً على فراق منال ؟!! أحياناً يا صديقي تترفق بنا الحياة عندما تقسو لتساعدنا على مواجهة مثل هذه الخطوب .

صدمته هذه المقاربة التي لمس فيها قدراً من التبرير لمسببات القسوة التي لحقت به .

كانت ترتسم على وجه صديقه ملامح وطن أخذت الأحداث تحفر فيه أخاديد وشقوق عميقة صارت مقبرة للأحلام ، ترتخي وتتكسر معها جغرافيته وتاريخه وهويته وكل ما بشر به من مكان للعيش الكريم

لم يعلق على حديث صديقه . ولم يجادله ، فقد أدرك أن أشد ما يتعرض له الانسان من قسوة هو أن يفقد القدرة على الحزن ، وأن تنتزع منه مصادر الألم ، ولطالما كان الحزن والاحساس بالألم هما سوط المقاوم للهزيمة .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان