دعاني صديقي الرائع صالح علي الفقيه الشاعري إلى مقابلته في العشرين في شارع الفيصل ؛ فذهبت إليه ووجدته يعيش في اليمن .
فأغلب محيطه يمانيون ، في قهوة العمدة وجوها شاحبة تشبه جبال اليمن في الشتاء ، تتناول مأكولات ومشروبات يمنية . أذَّن لصلاة المغرب فولجنا جامع الصلاة الذي يؤمُّه شيخًا مصريًا بينما معظم المُصلِّين يمنيين .
وأثناء تجوالنا في الحي ، حدَّثت مستضيفي ” أبو جهاد ” أنني أعيش في الخرطوم ، فالعمارة والحي الذي نزلت فيه يعجُّ بالأشقِّاء السودانيين النازحين ، وما أطيب هؤلاء البشر ، وما أجمل روحهم !! .
بعد الصلاة عزمني مضيفي على عشاء في مطعم يمني ، قال لي أنَّ صاحبه من أبين ، وأنَّ والده من نازحي حرب ٩٤م إلى سوريا ، وكان أن فتح هناك مطعمًا للمأكولات اليمنية إلى أن حلَّت الحرب ، فنزح الإبن مع الآف النازحين السوريين إلى مصر .
مطعم بسيط قدم لنا طبقًا شهيًا ، وجبة عشاء مكونة من خبز موفأ وتوابعه من حلبة ومرق ، ما لفت نظري هو الدجاج المشوي بالحجارة وفق طريقة يمنية شهيرة لطباخة اللحم المضبي .
صاحب المطعم أقبل نحوي مبتسمًا : أنت الذي كنت تكتب في صحيفة ” الأيام ” ، فأومت له بالإيجاب ، قائلًا : كانت أيامًا “.
انصرفنا إلى مطعم مجاور ، شربنا الشَّاي العدني ، وزاد الشيخ صالح أن أصرَّ علي بطعم ولو حبة خمير ( باخمري) ، لذيذ جدًا عندما يؤكل ساخنًا مع الشَّاي بالحليب .
وفي داخل وفناء المطعم رأيت وجوهًا هرمت وشاخت في المنفى أو النزوح ، وما أثار حفيظتي هو رؤية نساء يمنيات يتسولنَّ السابلة ، ولا أعلم كيف وصلنَّ هنا ؟! ومع هذه المأساة أطفأت حرقتني بكلام الله : وأمَّا السآئل فلا تنهر “.
المهم يشعر الواحد وكانّه في اليمن ، أجواء اعتيادية روتينية اعتادها أحفاد سبأ وحمير ، جبلوا مزاولة حياتهم طوال أعوام نزوحهم إلى بلاد مصر العزيز .
وكم كانت المحروسة بالله كريمة للغاية مع الوافدين ، فلم تضعهم في معسكرات أو مخيمات للاجئين ، بل وأعطتهم كامل حقوق المواطنة .
كما أن مصر لم تضق بهم أو تتعامل معهم كغرباء ، تحسرت على ذاتي وعلى بلادي التي يخجل الإنسان من ذكر قسوة ما يحدث للنازحين اليمنيين داخل وطنهم .
وقبل أن أطفق عائدًا ابتعت علبتي حليب الممتاز بخمسين جنيه من محل يافطته تشير إلى بيعه لمواد غذائية يمنية ومصرية ،قلت مازحا لأبي جهاد : وداعا يا صاحبي ، سأغادر اليمن إلى السودان ، والله يعينك يا مصر ، وما أعظمك يا شعب مصر .
وداعا يا أهل اليمن ، سأعود الآن إلى الخرطوم ، عذرًا إلى أول الفيصل حيثما يمتزج النيل الأزرق بالنيل الأبيض ، وفي مشهد عربي انساني أخلاقي قلَّما تعثر عنه في أي بلد آخر ..
محمد علي محسن
القاهرة
٢١ مايو ٢٠٢٣م
الأكثر قراءةً
الأكثر تعليقاً
-
السعودية تُعدل شروط تأشيرة العمرة.. قيود جديدة على السفر الفردي
-
السعودية تُحدث نقلة نوعية: إقامة دائمة بدون كفيل وبمزايا استثنائية
-
مسؤول استخباراتي إسرائيلي يكشف عن عدد الصواريخ الباليستية التي تمتلكها إيران حاليا
-
أسواق الصرافة تفاجئ الجميع بتغييرات كبيرة في أسعار الدولار والريال السعودي مقابل الريال اليمني..السعر الان
-
منارات المساجد في صنعاء تتحول إلى منصات تجارية.. ما القصة؟
-
بعد عامين من البحث.. أبو بكر الشيباني يجد والده في مستشفى بالقاهرة ويكشف تفاصيل صادمة
-
مقارنة بين الصواريخ الإيرانية وصواريخ "حزب الله" و"حماس".. موقع عبري يكشف فوارق فظيعة ومرعبة