اليمن بين الدين والسلالة
الساعة 07:09 صباحاً

منذ أن وُجدت الخليقة، فطر الله الإنسان على الخير والإحسان، ثم انقسم بني الإنسان إلى محب للخير ساعٍ إليه ومُضْمرٍ للشر نزّاع لفعله. وإذا ما رجحت كفّة الشرّ واستسلم الإنسان لنوازعه الكامنة فيه، انتشر الظلم، واستوطن الطغيان، واستُحِلّت القيم، وزاد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وفي حال كهذا، جاءت الأديان السماوية ورُسُلها برسالة ربانية خالدة، عنوانها، الهداية بعد الضلال، وتصحيح المسلك البشري السوي بعد الإنحراف، وتذكير الإنسان الطاغي بأنه مخلوقٌ لا خالق، عبدٌ لا معبود؛ أي إنها جاءت لتشذيب النفس البشرية وتنقيتها من الشرور، وصقل الفطرة التي فُطِرَ عليها الإنسان، وهذا مؤداهُ استعادة القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق، وإعلائها بين الناس، والكف عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت أي ظرف من الظروف.

بين الشعوب والقبائل في الجزيرة العربية، وخارجها، كان الشعب اليمني العلامة المضيئة والمتفرّدة في اعتناق التوحيد الرباني، إذ بعد أزمنة طويلة من عبادة الأجرام السماوية، والتفكُّر بخالقها، اهتدى الإنسان اليمني إلى أن خلف تلك الأجرام إله واحد، أحسن صُنعها، ونظّم حركتها، وقد كان اليمني القديم مُتقناً لعلم الفلك، عارفاً بمسارات النجوم والكواكب؛ ولذا آمن بالله رحمن ذو سماوي، كما جاء في النقوش المسندية، وصدّق كل الرسالات السماوية، الحنيفية واليهودية والمسيحية. وخلال تلك الحقب المتعاقبة، كانت اليمن امبراطورية عظيمة، يحكمها ملوكها ومكاربتها وأقيالها، ولم ينتقصها اعتناق الأديان أياً من مقومات الحكم والسيادة، بل إنها كانت أحد أضلاع مثلث الحضارات العريقة في المنطقة، السبئية والبابلية والفرعونية.

مع مجيء الإسلام في القرن السابع الميلادي، سارع الشعب اليمني لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف، والإيمان بالنبي محمد ﷺ، والدفاع عنه، سواء أولئك الذي نزحوا عن بلدهم الأصلي في أزمنة غابرة واستوطنوا بلاد الحجاز، كالأوس والخزرج، أو الذين قدِموا من اليمن بعد سماعهم بالبعثة النبوية؛ وقد كانوا وقتها أهل كتاب سماوي كما جاء في وصية الرسول لمعاذ بن جبل لحظة ابتعاثه إلى اليمن، ولم يكونوا في جاهلية من دينهم كغيرهم من عرب الشمال، وكان لهذا التراكم التوحيدي -دون شك- أثره البالغ في مسارعتهم لاعتناق الإسلام طوعاً بالمقارنة حتى مع أبناء عمومة النبي ﷺ الذين أُخضِعوا بحد السيف للإسلام والإيمان بالله ورسوله.

حمل الإسلام في جوهره فكرتين أساسيتين، الأولى هداية الناس لتوحيد الله بعد ضلالهم، والثانية غرس القيم الإنسانية ومكارم الأخلاق بعد انحسارها، وقد ورد في الحديث النبوي ما نصّه "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق". ومن هذه القيم التي جاء بها الدين الحنيف، قيمة الحرية، أي عدم استغلال الإنسان للإنسان، مهما كانت الظروف، وأكثر من ذلك، عدم استغلال الدين نفسه لاستعباد الإنسان، واستحلال دمه وماله وعرضه. والمفارقة هنا أن استغلال الدين لامتهان كرامة الإنسان اليمني هو ما حدث -ولايزال يحدث- في اليمن منذ ما يقارب الـ 1200 عام على يد السُلالية الهاشمية الدخيلة.

ما من شكٍّ أن السلالة الهاشمية في اليمن -نسباً وانتساباً- استغلت الدين والنبوة لتحقيق أهدافها السلطوية، وقد جاءت هذه الأهداف تحتى مسمى "آل البيت"، وعِماد هذا المسمى الصحابي علي بن أبي طالب، بدعوى انتسالها منه، وقد قِيل في عليّ أقوال كثيرة، أضفت عليه هالة من القداسة تماثل قداسة ومعجزات الأنبياء، وجعلت منه نبي غير مرسل، حتى أن السلالة الهاشمية جعلته باب الإسلام الذي دخلت عبره اليمن، مع أنه لم يطأ جغرافيتها، إنما وصل إلى أطرافها فقط، كما تقول كل السِيَر التاريخية التي أكّدت على توافد اليمنيين إلى المدينة لإعلان إسلامهم بمجرد أن تناهى خبر النبوة إلى مسامعهم، فضلاً عن أولئك الذين وصلتهم رسائل النبي (ص) فلبّوها طوعاً دون تلكؤ أو مواربة.
 

وقد كان السفاح يحيى الرسي، وأنساله من بعده، الصورة الأكثر قُبحاً للهاشمية على أرض اليمن، وذلك لمّا حوّلوا الدين الإسلامي من دين توحيدي إلى سُلالة صنمية، فبرزت السلالة في أهدافها السلطوية على أنقاض الدين الحنيف الذي هدَمت أركانه، باستحلال الدم وانتهاب المال وامتهان الكرامة، ماضياً وحاضراً. وعلى منوال نسج قصص القداسة والبطولة عن الصحابي عليٍّ، دلّست الهاشمية بقولها إن السفاح الرسي ناشر الإسلام في بلاد اليمن، أي فاتحها، والحقيقة التاريخية تقول إن اليمنيين فتحوا كل البلدان حتى وصلوا أرض الأندلس، فكيف تناسوا فتح بلدهم وإدخال أنفسهم وأهليهم في الإسلام قبل تغريبتهم الأبدية عن ديارهم في الجبال والقفار والبراري؟!

لقد عاش اليمنيون أزماناً طويلة فوق أرضهم وتحت سمائهم، سادة على بلدهم، معززين مكرمين، مشاركين في الحضارة الإنسانية، واعتنقوا الديانات السماوية فكانت إضافة ثقافية لمكانتهم، وحتى بعد دخولهم في الدين الإسلامي أفواجاً، وقبل توغل المشاريع السياسية الزيدية والشافعية فيه، كانت مكانتهم محفوظة إلى حد ما، رغم ما تعرّضوا له من ظلم الأموية والعباسية البائدة. إلا أن توّغل السلالة الهاشمية بشقيها الرسي والمهاجري في بلدهم، وخضوعهم كرْهاً للتقسيم المذهبي الزيدي الشافعي، أنهكهم أرضاً وإنساناً، وحال بينهم وبين بناء دولتهم القوية المنيعة، وهنا نجد الفرق جليّاً بين جوهر الدين الحنيف كرسالة سماوية وبين المشروع السُلالي المغلف بالدين كأداة للحكم والتسلّط. إن اليمن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى لاستعادة مجدها وهويتها الحضارية، ولن يكون ذلك إلا بإعادة تعريف الدين كرسالة توحيدية خالصة وكشف نقيضه -السُلالية- كهدف سلطوي دموي وتجفيف وقودها المتمثل بالقداسة الكهنوتية المُصطنعة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان