كيف نفهم الله؟
الساعة 08:10 صباحاً

دروس ميسّرة للمتقين وسواهم.

 

الدرس الأول: الكفر

 

توعد القرآن [الله] الكافر بمصير مشؤوم: الجحيم. الكافر، وفقاً للخطاب القرآني، قد يكون شخصاً أو جهة، وقد يكون مكاناً. أما الكفر فمسألة معقدة أوسع من الموقف الفلسفي النظري، من الإيمان والإلحاد. هو منظومة متكاملة تبدأ برفض المبادئ الأساسية للدين، أي دين، وتنتهي بقرار شن الحرب على أتباعه. الكفر ليس منازلة مع الله بل مع الناس، وهو ليس سخرية من الخالق وإنكاراً لوجوده، بل شيئا آخر: قهر المخلوق، والحيلولة بينه وبين اختياراته.

 

 الكافرون، يقول القرآن، هم الظالمون [سورة البقرة]. والظلم مجاوزة الحد، كما في اللغة. ما يعني أن الكافر تجاوز في ظلمه حدود المعقول والمتخيّل. والظلم، بوصفه قهراً وعدواناً منقطع النظير، لا يصيب الخالق، المتعالي واللانهائي، بل مخلوقاته الضعيفة، وهنا يكمن شره المطلق. لا يمكنك أن تكون كافراً إذا لم تكن ظالماً وفاسقاً. الكفر ليس موقفا فلسفيا، بل منظومة متكاملة لا يمكن تجزئتها: رفض الخطاب الأخلاقي للدين الجديد، محاصرته، منع الاقتراب منه، شيطنته، ثم إعلان الحرب عليه. كفار القرآن، أعني الكفار في الخطاب القرآني، دائما فجار وظلمة، يؤمنون بوجود الخلق ويحتقرون المخلوق، ويبادرون إلى السلاح للحيلولة دون أي إصلاح أخلاقي وعدلي لنظام العلاقات البشرية.

قد تكون مؤمناً بالله، شديد الإيمان، ولكنك أيضاً كافر أشد الكفر. أن ترفض الحقوق الطبيعية للبشر، كالعدالة والحرية، وتمنعهم من اختيار العقيدة والطريق فأنت تمارس الكفر المطلق. إن إيمانك بالله ورسله لا يأخذك بعيداً عن الكفر، وإتقانك للشعائر والطقوس لا يعني أنك صرت على هدى. يكاشف القرآن الناس بهذه القاعدة، كما في سورة الأنعام: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.

 الظلم هو تجاوز الحد في الجبروت، هو الكفر كما في مواضع أخرى. بهذا المعنى قد يختلط الكفر بالإيمان، الاعتقاد بألوهية الله، مع قهر عباده. كل ما يريده الله من وراء الرسل، كما يكرر مراراً، أن يرفعوا الظلم عن الناس. بقاء الظلم يعني استقرار الكفر. ثمة زمن سيأتي، كما في صحيح مسلم، يصبح فيه الرجل مؤمناً ويمسي كافرا. ليس لأنه يتقلب بين الإيمان والإلحاد، فلا يمكن للمسائل الاعتقادية أن تكون رجراجة وهشّة على هذا النحو، بل لأنه سيتردد بين الظلم والعدل في زمن تكون فيه الفتن " كقطع الليل المظلم". والقهر، الظلم، أخطر الفتن. 

 يروي القرآن عن يسوع وقومه: "فلما أحس عيسى منهم الكفر". استشعر عيسى موقفاً أبعد من الاعتقاد: الرفض، الخديعة، المكيدة، والنية على تصفية جماعته. ذلك هو الكفر الذي أحسّه يسوع. دفعه ذلك الإحساس إلى طلب النجدة "قال من أنصاري إلى الله"، بدأ يحشد لمعركة وجودية. 

فالكفر، كما في خطاب القرآن وكما عايشه عيسى، هو الظلم المطلق، المنظومة الكاملة، وهو لا يرفض النظرية الجديدة وحسب بل يقهرها بالسلاح والمكيدة. كان النبي محمد يأتي بالآيات فقال القرشيون الكفار مستنكرين: "ماذا أراد الله بهذا مثلاً". كانوا كفاراً يؤمنون ب"الله"، ويصدقون أن محمداً جاء بما يقوله من لدن الله. غير أنهم انحازوا إلى مصالحهم وتواطئوا على إفشال المشروع الاجتماعي والأخلاقي الذي جاء به، ذلك المتعلق بالحريات والتحرير. 

 

لم يكفر القرشيون لأنهم عبدوا الأصنام، ولكن لأنهم منعوا أي عبادة أخرى، شاهرين الخديعة، السلاح، وتشويه السمعة. أي أن السلفي المؤمن قد يكون كافراً فاجراً حين يحول دون أن يعبد الآخرون ما يشاؤون من أرباب. كان القرآن يحاول شرح هذه المسائل لأتباعه فيقول "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم ومشركون". إذ أن الشرك، وهو درجة مخففة من الكفر أو هو الكفر النسبي أو الفلسفي،قد يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن. أما الكفر، بوصفه منظومة قهر شاملة، فقد يقع فيه أكثر الناس إيماناً بالله وإتقاناً لشعائره.  

 

هكذا يبدأ الكفر: مجتمع طبقي، تصب مصالحه في خانة فئة قليلة، يتواطأ فيه الأقوياء على استغلال الناس والأرض والشعائر الدينية. يستقر نظام العدالة على تلك الصيغة البغيضة. ثم يحدث أن يظهر رجل يقول إنه نبي. يذهب الأقوياء إليه ويساومونه [إن شئت ملكا ملكناك]، فيخبرهم أنه مرسل من الله [ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً]. ينادي بتحرير العبيد، عتق الرقاب، الزكاة، الصدقات، إعادة توزيع الثروة، العدالة الاجتماعية،حرية الاختيار، ويضع مسودة لقانون يساوي بين الضعفاء والأقوياء.

 يرفض الأقوياء فكرتي العدالة والحرية اللتين جاء بهما النبي لأن من شأن ذلك أن يصدّع النظام الاجتماعي القائم، ويقوض شبكة المصالح والنفوذ ويحدث شرخاً في التاريخ. يواصل النبي دعوته فيلتحق به الضعفاء من الرجال والنساء، ثم الشباب. يهب الأقوياء بالسلاح والمكيدة ليس لأنهم لا يؤمنون بالله، فاّلأغنياء أضعف من أن ينكروا وجود الله. الأغنياء ملتصقون بالسماء، فهي التي تحمي سفنهم وقوافلهم وتحمي مقاتلتهم.

 

 لا ينكر الأقوياء الله بل أنبياءه: العدالة القاتلة التي يحملها الدين الجديد، أي فكرة عن العدالة الشاملة. ينشأ الكفر هُنا بوصفه ظلماً وجبروتاً، لا بحسبانه إنكاراً لوجود الله. بحسبانه ديكتاتورية فاشية وشاملة. كان كفّار قريش شديدي الإيمان بالله، ولم يكن في مكة ملحدٌ واحد. كانوا فقط طغاة وظلمة، أي كفاراً.

 الدولة الدينية المتوحشة هي دولة كافرة، الشيخ المتطرف والمحرض على العنف هو كافر وفقاً للتعريف،السلالة المحمدية التي تقاتل عبر التاريخ لكي تحكم الناس وتذل أعناقهم هي سلالة كافرة. كذلك الجماعة التي تقرّر أن تخضع العالم لعقيدتها هي جماعة ظالمة ومتجبرة، أي كافرة. زعيم قريش وهو يموت في يوم بدر راح يهذي "بخ بخ يا قريش قاتلت أهل السماء وأهل الأرض" كان مؤمنا بالسماء، بالله، وبأن هنالك أموراً تتنزل منها على الأرض، وأن حياة في الأعلى وفي مكان آخر. لكنه كان،على إيمانه، بالغ الكفر، أي بالغ الجبروت.

 سيذهب إلى الجحيم وهو مؤمن بالخالق. ذلك طريقه، ليس لأنه لم يؤمن بمحمد، فمحمد مجرد موضوع عرضي في حكاية التاريخ البشري، بل لأنه تعالى على العدالة. يؤمن الشيطان بوجود الله ولا ينكر شيئا مطلقا، غير أن كفره قادم من طغيانه، من إصراره على أن يفعل ما يشاء. لا يمكنك أن تكون كافرا ما لم تكن ظالما وجبارا . كان سيد قطب في معالم على الطريق ينصح اتباعه قائلاً: يوماً ما سنخضع رقاب كل العالم لهذا الدين. وكان يؤكد في صفحات الكتاب إن الإخضاع سيكون بالقوة كلها، بجماع القوة. كان يمارس الكفر، كان كافراً متوحشاً وفقاً للمعنى القرآني للكفر. 

هناك أيضاً دار للكفر، بما أن هنالك كفراً. قد تكون تلك الدار صغيرة بحجم قرية، أو كبيرة بمستوى قارة. يقول مالك بن أنس: دار الكفر هي الدار التي يخشى فيها المرء على نفسه ودينه وماله. الدول الديموقراطية، كاليابان وألمانيا، تقع خارج هذا التعريف.

 بينما يمكن اعتبار باكستان، إيران، الجزائر، صنعاء، والبحرين ديار كفر. لنرجع إلى القرآن حيث وردت كلمة كفر ومشتقاتها حوالي 509 مرّة. تجري كلمة الكفر في السياق نفسه: الظلم، القهر، الجبروت، البربرية. بعد أن استقر تعريف القرآن على الكفر اقترح القتال كواحدة من الوسائل لمواجهته حين لا تكون هناك من وسيلة سواه. يقول "ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً". سبيل الله هنا، وفي كل موضع ترد فيه الكلمة في القرآن، هو البشر. يعرف سبيله على الدوام بأنه الناس، الرفق بهم، العدل معهم، وصيانة حقوقهم. ذلك هدى الله، يقول دائماً. 

 

 قبل مجيء النبي محمد كان العرب قد ابتكروا وسائل لمواجهة الكفر، ونشأ تكتل حلف الفضول الذي نال ثناء النبي محمد فيما بعد. كما برزت ظاهرة الصعاليك والتي ستستمر حتى مشارف العصر العبّاسي. لدى كل أمة مجاهدون أخلاقيون وقفوا ضد الظلم، أسطرتهم الجماعة البشرية كما فعلت مع روبن هود، مارجرجس، جيفاراً، الصعاليك، وسواهم. الشهداء، وهي كلمة مشتركة لدى كل الأمم، هم مجموعة سقطت في مواجهة الكفر: أي الظلم والجبروت. وفي الميادين الكبرى، في مدن الدنيا، هناك تماثيل لشهداء وقديسين كانت فضيلتهم الأولى والأخيرة أنهم أرادوا أن ينصُروا الناس، وكان ذلك ذنبهم الأكبر. 

أما الإيمان بالخالق فذلك شأن ثانوي، كما يقول القرآن. من وقت لآخر يقول لنبيه "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". ثم يعاتبه، حين يلحظ أن الأمور قد تداخلت عليه، قائلاً: فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا؟ لا تهلك نفسك إن لم يؤمنوا بحديثك عن الماضي والحق، ولا عن العدالة والفلاح. على أن أعداء الأنبياء كانوا على الدوام مؤمنين بالله، ولكنهم لم يحتملوا فكرتهم عن العدالة ولا رغبتهم في إعادة هندسة النظام الاجتماعي. فلم يمض سوى وقت حتى أحس عيسى منهم الكفر، وسرعان ما وضعوه على الصليب، أو حاولوا ذلك. فالكافرون، دائماً وفي كل أمة، هم الظالمون، هم الفاسقون. وفي مقابلة الدين: هي الحرب الشاملة. فالجماعة لا يكتمل كفرها إلا حين تقرر أن تضع النبي على الصليب، وأتباعه في الأخدود.  

مقالات أخرى

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان