كيف خدع الغشمي عبدالله عبدالعالم
الساعة 12:28 مساءً

الرئيس المُلهم المقدم إبراهيم الحمدي ليس ملاكًا مُنزهًا عن الخطأ، وحينما نذكر بعض زلاته، فهذا لا يعني الانتقاص منه ومن تاريخه النضالي الذي لا ينكره إلا جاحد، بقدر ما يعني التركيز على تفاصيل حياته كإنسان، مارس السياسة، ودخل دهاليزها، وأجاد آلاعيبها، وموه وناور، حتى استتب له الأمر، وله في ذلك مُبرراته وتطلعاته المشروعة.       أزاح الحمدي القوى القبلية والعسكرية التي أزاحت سلفه الرئيس عبدالرحمن الإرياني، ومهدت لتوليه الحكم، وأتى بقوى أخرى أكثر انتهازية، جُلها من سنحان ومن همدان 27 أبريل 1975م، وهو التاريخ الذي عُرف بـ (يوم الجيش)، وصار عيدًا يُحتفى به، وأسماه علي عبدالله صالح فيما بعد بـ (يوم الديمقراطية)؛ كونه اليوم الذي دخل فيه السلطة من أوسع أبوابها، وأصبح قائدًا للواء تعز، بعد أن كان ضابطًا صغيرًا بباب المندب لا يُؤبه له.

وثق الحمدي بالقوى الجديدة حد العمى، وحين عرضت السعودية على هذا الفريق قتله، ذهب قائدهم أحمد الغشمي من فوره إليه، واخبره بذلك، طلب الرئيس من نائبه أن يجاري آل سعود؛ حتى يمسك عليهم دليل إدانة، ومن يومها زادت ثقته به، ولم يستمع حتى لنصيحة مُحذريه، أهدى أسمائهم لقاتليه، فانتقموا بعد أن تخلصوا منه منهم شرَّ انتقام.  

يورد حاتم أبو حاتم قصة طريفة مفادها أن صالح الهديان المُلحق العسكري في السفارة السعودية بصنعاء زار مكتب الغشمي، وجلس مع سكرتيره أحمد العماد، عارضًا عليه خدماته المادية، أخبر العماد مديره بما حدث، فعلق غاضبًا: «هااا يشتوا عميل غيري، والله لا اقلب الطاولة على رؤوسهم».

بشهادة كثيرين، كان الغشمي ومعه علي عبدالله صالح، ومحمود قطينة، ومحسن سريع مُتحكمون بمفاصل الجيش والدولة، وكان يوازيهما في الجهة المُقابلة وإن بنفوذ أقل: عبدالله الحمدي، وعبدالله عبدالعالم، وعلي قناف زهرة، وعلي الشيبة، ومنصور عبدالجليل، وأحمد فرج، ومجاهد القهالي، أعتمد الفريق الأخير على شعبية الرئيس، وأغفل ولاء غالبية القوات المسلحة للغشمي، فخسر - كما سيأتي - المعركة.

وفي الوقت الذي عزز أحمد الغشمى حضوره في معسكرات الجيش، من خلال الزيارات الدائمة، وشراء الولاءات، انشغل عبدالله عبدالعالم بحضور الفعاليات والمناشط الاجتماعية، وكما استفردت صحيفة (الثورة) الصادرة من صنعاء في نقل أخبار الأول، استفردت صحيفة (الجمهورية) الصادرة من تعز في نقل أخبار الأخير، وهي بمجملها أخبار تُؤكد وجود فريقين يتحكمان بالمشهد، وتُثبت - وهو الأهم - أنَّ أحد الرجلين كان يشتغل بذكاء؟  

كانت نهاية الرئيس الحمدي علي يد القوى التي صنعها 11 أكتوبر 1977م، وكان للمملكة العربية السعودية الأثر الأكبر في انقلاب هؤلاء عليه، اشترتهم - كما تشير أغلب المصادر - بالمال، ووعدتهم بالسلطة؛ بعد أنْ تأكد لها أنَّه ذاهب في اليوم التالي إلى عدن ليحتفي مع صديقه الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) بالذكرى الرابعة عشرة لثورة 14أكتوبر، ويعلنان الوحدة من هناك.

أغلق الرئيس الجديد المقدم أحمد الغشمي الأبواب التي كان سلفه قد فتحها لتحرك القوى السياسية، وشهد عهده حالة من الرعب، والاعتقالات، والمطاردات الرهيبة، وزادت بفعل ذلك، وكرد فعل على حادثة اغتيال الحمدي الأعمال العسكرية للجبهة الوطنية في المناطق الوسطى.

وفي المقابل سار الرئيس الغشمي على نهج سلفه في تعامله مع مشايخ القبائل المُوالين للسعودية، وقد توسطت الأخيرة لإصلاح العلاقة بينهم يناير 1978م، ولكن دون جدوى، ليُعقد في مارس من ذات العام بمدينة صعدة مُؤتمرًا شعبيًا دعا إلى العمل على إسقاط النظام الجديد، رافق ذلك تحركات مُسلحة قام بها الرائد مجاهد القهالي، بمُعاضدة من اللواء الأول المُرابط في منطقة عمران.

رافق ذلك قيام الرائد عبدالله عبدالعالم بالانسحاب بقوات المضلات من العاصمة صنعاء 28 أبريل 1978م، وكان الأخير قد انخدع بادئ الأمر ببراءة الغشمي وفريقه من دم الحمدي، ولم يفق من شُكوكه المُتضاربة إلا حين بدأت دائرة التهميش والإقصاء تطاله؛ بدليل أنَّه لم يقم بحركته الفاشلة تلك إلا بعد مرور خمسة أيام من إلغاء مجلس القيادة الذي كان عضوًا فيه، واستفراد الرئيس المُتهم بالقتل بالحكم، وكان مصيره ومصير مجاهد القهالي الهروب جنوبًا.

الغشمي المُتهم بالسذاجة والغباء، تخلص من خصومه بخسة ودهاء، أخفى علي قناف زهرة عن المشهد. وحين تململ علي الشيبه خاطبه بلهجة شديدة: «عاد تسكت ولا الحقتك بصاحبك»، فأغلق المسكين على نفسه باب داره، ولم يخرج منه إلا إلى القبر. وأقنع عبدالله عبدالعالم ببراءته من دم الحمدي، ثم أقاله، وسمح له بمغادرة صنعاء مع قوات المضلات، وورطه بحادثة قتل مشايخ تعز، وهي الحادثة المأساوية التي لا تزال تفاصيلها غامضة حتى اللحظة.

استفرد الرئيس الغشمي وفريقه بالسلطة، إلا أنَّ مكوثه فيها لم يدم طويلًا، على اعتبار أنَّ السعودية المتحكمة الرئيسية حينها بالمشهد أرادته - كما تحدث البعض - مُحللًا لمن أتي بعده، وما دامت تُهمة اغتيال الحمدي - حينها - لاصقة به، وشعبيته في الحضيض؛ فقد تحمل - باعتقادي - جريرتها لوحده، ودُفن معها.

مثلها مثل حوادث الاغتيالات في تلك الحقبة، ظلت حادثة اغتيال الرئيس الغشمي عُرضة للتأويلات الجانبية؛ وذلك لعدم وجود تحقيق جاد سبق أنْ بت بها، والراجح أنَّها كانت - في الأصل - تمهيدًا للانقلاب على الرئيس سالمين، ومن ثم اغتياله، والأرجح أنَّ الهدف الرئيسي منها تمثل بضرب عصفوريين بحجر واحد، وهو ما كان.

الحمدي وسالمين رئيسان أحبهما الشعب، حاولا التخلص من هيمنة القبيلة والايدلوجيا فتُخلص منهما، وبعد ثمانية أشهر و15 يومًا من مقتل الأول أنهى الرفاق حياة الثاني 26 يونيو 1978م؛ بذريعة القضاء على طفولته اليسارية، وقبل ذلك بيومين قتل الرئيس أحمد الغشمي بحقيبة مُفخخة قادمة من الجنوب، تتشابه النهايات، بيد أنَّ الأخير ليس محبوبًا البتة، وكما يحظى قبر الحمدي بآلاف الزوار لقراءة الفاتحة عليه، لا يزال قبر سالمين مجهولًا حتى اللحظة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان