علي البكالي.. فرادة الإبداع
الساعة 10:16 مساءً

خلال ما يقاربُ ستين عاما مضت ــ هي عُمر الجمهورية في شمال الوطن ــ لم أجد فيها جهودًا فكرية تتعلقُ بالقضية الوطنية كمًّا وكيفًا كما هو الشأنُ لدى المفكر اليمني الدكتور علي البكالي الذي غاص عميقًا في التاريخ، وحلق عاليًا في الفكر، ليخرج للجمهور بموسوعة علمية فريدة من نوعها، تناولت بالاستقراء والتحليل عمق مأساتنا اليمنية، ثم وضع الحلول العملية لها. 

صحيح أن الأديب والمؤرخ الشاعر مطهر الإرياني قد قدح زناد الضوء في سرديته الأدبية الرائعة "ملحمة المجد والألم" ردًّا على دامغة الدوامغ للشامي، المنحاز لبني عمومته "السلاليين" وهاجم فيها الحضارة اليمنية وتاريخها، ولكن هذا العمل ــ على أهميته ــ لم يكن سوى بيضة الديك في هذه المسألة تحديدا، سواء للشاعر أم لغيره، ولا نكاد نجد عملا أدبيا أو فكريا يوازيه فيما بعد، على كثرة الشعراء والأدباء اليمنيين، المحبين لوطنهم والغيورين عليه، وإن كان للشاعر الإرياني أعمال أخرى قريبة منه، وتدخل في باب المعارف العامة، لا في مجال الفكر الموجّه باتجاه القضية الوطنية. 

لقد حلت عاصفة من الجدب الفكري في هذا الاتجاه وإن أبدعوا في مجالات أخرى، إذا ما استثنينا في مرحلة لاحقة موسوعة الفرح العلمية في التاريخ والحضارة اليمنية، والذي انحاز ليمنيته وتهامى فيها بخشوع راهب؛ بل وقدم للأجيال خلاصة ما كتبه المؤرخون عن اليمن قديما وحديثا. 

أتكلم هنا عن الجهود الفردية لمبدعين يمنيين، أما مؤسساتيا فقد مثّلَ مركز الدراسات والبحوث اليمني، برئاسة الدكتور عبدالعزيز المقالح منذ تأسيسه في سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم منارة إشعاع علمي وفكري، فنفض الغبار عن كنوز ولآلئ كانت مطمورة، وسلط الضوء على كثير من القضايا الاجتماعية والثقافية، ذات البعد الوطني الخالص، وإن لم يؤخذ بنتاجات ومخرجات تلك الدراسات؛ لأن السياسيين اليمنيين في قطيعة كبيرة مع رجالات الفكر والثقافة؛ لأنهم غير مثقفين أساسًا، إلا ما ندر. 

تلا مركزَ الدراسات والبحوث اليمني، مجمع العربية السعيدة للعناية بالتراث واللغة العربية الذي أسسه الأديب والناقد اليمني الكبير الدكتور مقبل التام عامر الأحمدي، وسنفرد له تناولة خاصة به في وقت لاحق. 

وعودة بعد هذا الاستطراد للمفكر اليمني البكالي الذي أنتج حتى الآن ما يزيد عن عشرين عملا، وجلُّها تتصلُ بالوعي القومي والقضية الوطنية والبناء الحضاري لليمن الذي ترنحت أمجاده من زمن طويل ولا يزال في غيبوبة الشرود الكلي والتية الجمعي، فاقد البوصلة، أو قل فاقدًا للقائد الكبير، الأطول من بين الجموع المتناحرة، القائد الكبير بحجم اليمن الأكبر. وهل أزمتنا التاريخية في الحقيقة إلا أزمة قيادة؟! 

منذ عشر سنوات وأكثر يناضل البكالي وحيدًا بلا مؤسسة أو حزب، في معركة غير متكافئة كالسامواري، مراهنا في انتصاره على أدواته التي استمدها من وعيه الفكري، وقد خبر عن قرب طبيعة المعركة وصراعها المزمن الذي أًصاب اليمن، فشخّص الداء ووضع الدواء، ولا يزال مواصلا "التطبيب" في أوج عطائه الفكري بروح ثورية، وبلا كلل أو ملل. 

أعرف الرجل عن قرب، وأعرف مدى حماسه وصدقه وإخلاصه لقضيته التي تشبع إيمانا بها، وإن اختلفت معه أحيانا في بعض التفاصيل اليسيرة. وأكاد أجزم أن اهتمامه أحيانا بالشأن العام والقضية الوطنية مقدمة على اهتمامه بشؤونه العائلية أو الخاصة. ومن هنا يتأتي انفعاله الدائم، لا أدري هل له علاقة بالانفعال الإبداعي الذي تحدث عنه عالم النفس النوبلي برجسون، قائلا: أن جوهر الإبداع هو الانفعال، ويعرف الانفعال بأنه هزة عاطفية في النفس. وهذا من الأسس النفسية للإبداع؛ ثم إن المبدع لا يُبدع إلا متألما. 

في الواقع قد لا يكون المفكر البكالي بذلك الحضور الباذخ الذي يستحقه اليوم في الأوساط الثقافية والسياسية؛ نظرا لدخان الحرب الذي يغطي سماء الفكر ويحجب أنوار الثقافة، فأصوات البنادق إذا لعلعت وفوهات المدافع إذا نطقت استبدت بكل صوت في الساحة، لا صوت إلا لجنون الحرب فقط. وفي مرحلة لاحقة لهذه المرحلة ستعرف النخبة من هو علي البكالي؟ وسيعرف الجميع مشروعه الوطني الذي كرس له جهده سنوات. وبحسب أوشو: "كلما كان الشخص عظيما احتاج إلى مزيد من الوقت، ليحظى بتقدير الناس". 

إن كتاب "الأمير" للمفكر السياسي العالمي نيقولا ميكافللي ظل مدفونا بين الركام خمس سنوات، ولم يُعرف للعالم إلا بعد رحيله بسنوات طويلة، وكتاب فتح القدير للشوكاني عادت مخطوطته الأصل من الهند، وقد كانت على مشارف التلف، وإن إبداعات أبي الأحرار الشهيد الزبيري لم تقرأ في حياته كما قرئت بعد مماته. 

كتب المفكر البكالي في التربية القومية، وفي الهوية والحضارة والجيوبوليتيك السياسي وفي النهضة الوطنية والانتماء الحضاري والأصول التاريخية والناموس القومي والخلاص الوطني، منها ما هو مطبوع، والأكثر غير مطبوع حتى الآن. كما أن له مئات الحلقات التلفزيونية والإذاعية التي أنتجها منذ الانقلاب الحوثي على الدولة في 2014م وإلى اليوم. وله منذ فترة محاضرات شبه يومية عبر الاتصال المرئي عن التاريخ السياسي والبناء الفكري والتربية القومية، خاصة بين أوساط الشباب والناشئة من المثقفين الجدد الباحثين عن وطنهم المفقود.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان