الإسناد.. وإسهام القاضي العمراني
الساعة 03:34 مساءً

اتبع المسلمون نظاماً فريداً متميزً للمحافظة على الكتب من التلاعب والعبث بها، ومنع تغييرها وتحريفها، وخصوصاً منها كتب الحديث، فكل من رغب في الاستفادة من كتاب أو روايته كان عليه أن يحصل على حق الرواية بسماعه أو عرضه أو إجازته من المؤلف أو ممن روى عن المؤلف وهلم جراً.

وكان مبدأ ذلك هو ابتكارهم لـ"علم الإسناد" في حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية، وحفظه وتناقله فيما بينهم ثم نقله للأجيال اللاحقة جيلاً بعد جيل، حتى وصل إلينا بعد أكثر من ألف واربعمائة سنة، بعناية وتحري ودقة، وبشروط ومعايير عجيبة، وهو ما عرف بعد ذلك بعلم الأسانيد وعلوم الحديث.

ومع أن الكتب في عصرنا صارت مطبوعة وموثقة ومحققة ولم تعد هناك حاجة لتناقلها بالسند، فيكفي أن يقوم المحققون بتوثيقها لتصبح معتمدة في نسبتها لمؤلفها وفي مصداقية محتواها ومضمونها، إلا أن هذا النظام ما زال إلى الآن موجوداً لدى بعض العلماء الكبار، يحرصون عليه ويتتبعونه ويتناقلونه لأسباب منها :

- الحفاظ على تميز هذه الأمة بهذا الطريقة المتسلسلة في نقل القرآن الكريم والسنة النبوية وعلوم الدين.

- التبرك بطريقة السلف باتصال رواياتهم وأسانيدهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنعم بهذا الشرف وهذه البركة.

- الحفاظ على هذا العلم الشريف: "علم الإسناد"، فهو العلم الذي تميزت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم . ولا زال العلماء والمحدثون خصوصاً في زماننا هذا حتى الآن يستطيعون أن يذكروا أسانيدهم للكتب التي يروونها إما سماعاً أو عرضاً أو إجازة. سواء كانت روايات لبعض الأحاديث أو لكتب السنة والحديث أو للكتب الأخرى المشهورة التي لا زالت أسانيدها متصلة.

أما بالنسبة للقرآن الكريم، فكل حفاظ القرآن وقرائه، لا ينالون رتبة المشيخة في الحفظ والتلاوة إلا إذا حصلوا على إسناده عن أحد مشايخهم مسلسلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محفوظ بحفظ الله، ومحفوظ في صدور القراء، ومحفوظ بالأسانيد المتواترة المتصلة المستمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفاظ القرآن حتى قيام الساعة.

وقد كان القاضي العلامة محمد إسماعيل العمراني (ت1442هـ-2021م) رحمه الله متميزاً بالأسانيد العالية لكتب الحديث وغيرها، فعمره الطويل رحمه الله واجتهاده المبكر في طلب العلم، ميزه واختصه بهذه الأسانيد، ولهذا كان يرحل إليه طلاب العلم بل العلماء من الدول العربية والإسلامية، ليأخذوا منه السند بهذه الكتب (إجازة)، بمعنى أن يكتب لهم وثيقة أن الكتاب الذي يسنده بالنسخة التي يعتمدها أنه أجاز لهم روايته عنه بأسانيده عن شيوخه.  وهي إحدى طرق الرواية بالأسانيد خصوصاً للكتب والمطولات.

وهذه هي سنة العلماء قديماً في الرحلة لطلب العلم وتتبع الأسانيد العالية في رواية الحديث وفي إجازات الروايات وأصول المؤلفات والكتب. وكان من أشهر من رحل إلى صنعاء لطلب العلم وأسانيد محدثيها وعلمائها قديماً: الإمام الشافعي والإمام أحمد .

وأشهر الكتب المسندة التي كان العلماء الوافدون وطلابه المجتهدون يحرصون  عليها : صحيح البخاري ومسلم.  وسند العمراني في صحيح البخاريهو ما يرويه عن : شيخه الواسعي عن العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف عن العلامة عيدروس بن عمر بن العلامة عبد الرحمن بن سليمان الأهدل عن العلامة محمد بن محمد بن سنة الفلاني عن العلامة أحمد بن محمد العجل اليماني عن القطب النهرواني عن الطاووي عن بابا يوسف الهروي عن الجمل الفرغاني عن ابن مقبل الختلاني عن محمد بن يوسف العزيري عن البخاري.

تأملوا إسناد العلامة العمراني إلى صحيح البخاري يتضمن فقط أحد عشر راوياً، ومعلوم أن أسانيد البخاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما أربعة أشخاص (رباعية) أو خمسة (خماسية) أو ستة (سداسية)، فيكون سند العمراني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر راوياً أو سبعة عشر أو ثمانية عشر رواياً.

وهذه الميزة باتصال الأسانيد والرواة -كما سبق- ليست موجوداً في أي أمة حتى الأمم الحديثة التي نشأت في القرون اللاحقة، ولا حتى في الفرق والمذاهب المبتدعة المخالفة لأهل السنة والجماعة، ليس لديها أي أسانيد، وهم في الحديث عالة على أهل السنة، وهذا من حفظ الله لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الضياع والتحريف والوضع والكذب، ولهذا لا يشكك في السنة أو يقدح في ثبوتها وصحتها، إلا من لم يطلع على جهود وطرق المسلمين في حفظها وروايتها وتناقلها حتى عصرنا هذا، ولم يعرف ما عانوه وتكبدوه في سبيل ذلك، حتى كان بعضهم يسافر لشهور من أجل رواية حديث واحد فقط أو حتى التأكد من صحة روايته.

ومن أصول كتب السنة التي أسندها القاضي العمراني رحمه الله أيضاً : كتاب الموطأ للإمام مالك(93هـ-179) الذي رواه عن شيخه العلامة: عبد الله بن عبد الكريم الجرافي: (ت:1387هـ(.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان