السياسة والوعظ الديني
الساعة 10:58 صباحاً

من نافلة القول الإشارة إلى أن لكل نشاط مجالَه الخاص، كما له موضوع الخاص به، وإن أي تداخل بين نشاط ونشاط آخر ينتج عنه خلل مباشر، وقد يتحول لونا ثالثا بحد ذاته، كما هي طبيعة العناصر الكيميائية التي تتحد مع بعضها، فتنتج عنصرا ثالثا، وهكذا. 

الوعظُ الديني نشاطٌ ملحوظٌ في تاريخنا الإسلامي، له أعلامه ومعالمه، وله مادته وأسلوبه، وبصرف النظر عما قيل فيه، أو ما صاحبه فيبقى النشاط في إطار مجاله الطبيعي، أو دائرته الخاصة، ما لم تصاحبه مهنة أو حرفة أخرى، وهو ما نحاول الحديث عنه الآن، علما أن الوعظ الديني شائع في اليهودية سابقا، وهو أكثر شيوعا في المسيحية، خاصة أثناء الاضطهاد الروماني لأتباع يسوع في القرن الميلادي الأول، وقد كان دينيا محظا، فيما اختلط بالسياسة بعد مؤتمر نيقية "المجمع المسكوني" عام 325م؛ بل صار جزءا منها وفقا للتوأمة السياسية الدينية التي أحدثها الملك قسطنطين الأول حينها، والذي ربطه بإصلاحاته السياسية، لاستعادة مجد الإمبراطورية الرومانية. 

لقد ارتبط الوعاظ بسلطات عصرهم، وكانوا ما بين قادحين ومادحين، وإن كان الثاني هو الأعمٌّ الأغلب، معتمدين في "أرزاقهم" على ما يُعيّـنُه لهم هذا الطرف أو ذاك. وبهذا دخلوا السياسة من حيث لم يدروا، وقد أصبحوا جزءًا من بلاط الساسة، وإن لم يتصدروا المشهد. 

هل يصح الجمعُ بين الوعظ الديني واحتراف السياسة؟! أي هل يصح أن يكون الشخصُ سياسيًا بارعًا وواعظا ناجحًا في نفس الوقت؟!

نظريًا، قد يقول قائل: نعم. وما الذي يمنع من ذلك؟ لكن من الناحية العملية ذلك في عداد المستحيل عقلا. إذ للواعظ الديني عالمه الخاص، بمثاليته الدينية، وللسياسي عالمه الآخر ببراجماتيته السياسية، وكلاهما على طرفي نقيض، مع الإشارة هنا إلى إمكانية تكامل الدور أحيانا في أية قضية قد يتناولانها، إلا أن لكل منهما نسَقه الخاص به. 

الواعظ الديني نزّاعٌ إلى المثال، ومهمته ترقيق القلوب وتليينها والنصيحة والإرشاد، بشروط النصيحة، وبوداعة الواعظ؛ أما السياسي فمنحازٌ دائما للواقعية، ومهمته فرض خياراته وقراراته بقوة القانون قسرًا. شعار الواعظ: قل كلمتك وامش، وشعار السياسي: القانون فوق الجميع. وإن من يحاول أن يجمع بين الوعظ الديني والممارسة السياسية كمن يحاول أن يجمعَ بين نقيضين مختلفين في وقت واحد، وهيهات..!

إذا اشتغل رجل الدين بالسياسة أفسد الدين وأفسد السياسة معًا، كما هو الشأن نفسه لدى السياسي إذا ما حاول اللعب على الوتر الديني وتوظيفه لخدمة أهدافه السياسية، وهذا حاصل عبر التاريخ كثيرا، ليس في الإسلام فحسب؛ بل في الأديان الأخرى أيضا، وتجربة الكنيسة في العُصورِ الوسطى شاهدة على هذا، فقد كان ذلك الطغيان الهمجي والمتوحش الذي مارسه رجال الدين درسًا كافيًا لا لأوروبا فحسب؛ بل للإنسانية جمعاء، ولم تكن العلمانية ــ في واقع الأمر ــ إلا رد فعل لذلك الغلو، وتلك الممارسات التي عكست مدى الوحشية التي تسكن هذا الإنسان، نتيجة لتطرف ديني، كنسي، ابتدأ وعظيًا مثاليا، وانتهى سلطويا طغيانيا، يقتل بالحديد والنار، وقد كان يعظ وينصح بكل لطف ووداعة. هذا هو تاريخ الكنيسة ورهبانها، ولكل دين كنائسه ورهبانه. 

من ناحية موضوعية يراوحُ خطاب رجل الدين الواعظ بين مخاطبة القلب تارة والعقل تارة أخرى، فيما الخطاب السياسي عقلي في غالبه؛ بل لا مجال للعاطفة فيه، خطاب يقوم على الكم والربح والخسارة وتقدير المواقف، فيما خطاب الواعظ أو رجل الدين عاطفي، وجداني، وجزء منه غيبي أخروي. 

ولهذا لم يؤثر خطاب رجل الدين كثيرا، على الرغم من ارتباطه بالسماء، وبالقرآن الكريم أو الكتاب المقدس، لأنه مُوجَّه لعاطفة المخاطَب المتلقي أكثر من عقله، وإن من تأثير فهو محدود، وقد يتلاشى سريعا فالغرائز ميالة لهواها ولما جبلت عليها في تحقيق الرغبة واكتساب الجاه والمال، ولهذا أشار فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري في أدق توصيف، يحملُ بعدا نفسيا سيكولوجيا واجتماعيا، حيث قال: 

نهاني عقلي عن أمورٍ كثيرة وطبعي إليها بالغريزة جاذبي

 

لقد أشار المعري هنا إلى تغلُّب الغريزة وسيطرتها، وهو ذات الشأن مع عمر بن سعد بن أبي وقاص في قصته مع زياد بن أبيه، وكان من أتباع الحسين، فوعده إن خرج معه ضد الحسين بتأميره على منطقة "الري" بالعراق، فخاض جدلا داخليا مع نفسه قبل أن يخرج، معلنا: 

أأترك ملك الري والري منيتي أم أرجعُ مأثومًا بقتل حسين؟

والقصة رواها عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي في كتابه "وعاظ السلاطين" وقد استقرأ هذه القضية ببعدها النفسي والاجتماعي بصورة علمية دقيقة. 

الحال مع الوعظ ذاته مع الفن، ولقد لفت انتباهي هنا مقولة للفيلسوف الفرنسي المعاصر إدجار موران، في كتابه: في الجماليات، يقول: "تكمن أعجوبة الفن وأعجوبة الثقافة في كونها تجعلنا أكثر إنسانية، وأقل انغلاقا وأقل أنانية، وأكثر تفهما وأكثر تعقيدا. لسوء الحظ لا يستمر ذلك سوى فترة العرض. أ. هـ. 

لا نتكلم عن الوعظ الديني هنا منفردا، وبوصفه نشاطا أو حتى وظيفة؛ بل الوعظ الديني بما يحتوي عليه من نشاط: الإرشاد، النصح، الفتوى، الخطابة، الإمامة، إلى آخر هذه القائمة، كل ذلك مقرونٌ بالعمل السياسي العام، في زمن انتقل فيه الدارسون من الكليات إلى الجزئيات، ومن التخصص إلى تخصص التخصص. وفي حال أصرّ البعضُ على التقاء ذلك فلن يعدوَ الأمرُ مجرد كهانة دينية واستبداد سياسي ديني معا. كما لن يكون غير محاولة تجميع لصور متناقضة من أجل دمجها في صورة واضحة. 

للدولة العصرية أطرها وأنساقها الخاصة، ولم تعد تتفق مع نمط الدولة الكلاسيكية الموروثة حين كان الخليفة/ الإمام/ السلطان يخطب الجمعة ويعظ الناس، وأيضا يوزع أصواع الشعير والبر بيده على العامة من الناس، وفي موسم الحج يرأس موكب الحجيج، وفي المعارك يقود الجيوش ويوزع الغنائم. هذا نمطٌ كلاسيكي صار من التاريخ، ولم يعد تنتمي مفرداته اليوم للدولة العصرية، والمشكلة أن ثمة من يريد لرئيس الدولة أو ملكها أو رجلها الأول تحت أي مسمى أن يعيد تلك التصرفات، ظنا منه أن ذلك من الدين، وأن هذه هي الصورة الصحيحة للإسلام حد توهمه. هذا هو العيش في الماضي بحد ذاته، وهو ما تدعو له بعض الجماعات الراديكالية التي تصارع طواحين الهواء اليوم من أجل ذلك في أسوأ عملية اغتراب فكري وثقافي عن مستجدات العصر وتطوراته. 

نجزم أنه بقيام الدولة الحديثة ستتلاشى كل الصور العتيقة، وسينتمي الناسُ للعلم ولمنظومة القيم الأخلاقية الجديدة، ولروح العصر، أما ما دامت الدولة غائبة أو مغيبة فلن يقف الأمر عند مجرد بقاء هذه الجماعات؛ بل ستتكاثر كما تتكاثر البكتيريا، وستصبح واحدة من مشكلات العصر وتعقيداته؛ ذلك أنه في المجتمع المتخلف تنتصر الجماعات المتخلفة والفكر المتخلف، وعادة ما يكون المصلحون الاجتماعيون غرباء في أوطانهم يعانون همجية العامة والرعاع الذين يرمونهم بكل نقيصة، وعبر التاريخ كان الوعظ الديني سلاحا ذا حدين، استخدمه الأقوى ضد الأضعف، كآلية وسلاح معا. 

إن التداخل بين مفهومين اثنين ينتج عنه خليطٌ ثالث، هجين من المفهومين إن اتفق معهما في وجه اختلف في وجوه، وهو نفسه اتحاد أكثر من عنصر في بعضهما، فيتفاعلان كيميائيا، لينتجا عنصرا ثالثا، كما أشرنا سابقا. وما ينطبق على العلوم الطبيعية ينطبق على العلوم الاجتماعية أحيانا؛ لهذا يجب أن يحتفظ كل نشاطٍ بخصوصيته وبمجاله، فكل ميسرٌ لما خلق له، ومما ينسبُ للمسيح عليه السلام في هذا الجانب: "إنكم لا تستطيعون أن تخدموا الله والمال". كما ينسب له أيضا، مخاطبا يهود الناصرة من عملاء الرومان: أعطوا ما لله، لله، وما لقيصر لقيصر. وهو نداء واضح وصريح للتمييز بين مجالين اثنين، مجال السماء، ومجال الأرض. وبهذا نقول: لا يستطيع الواعظ أن يكون سياسيًا، ولا السياسي أن يكون واعظا، إلا أن يتم توظيف أحد المجالات للآخر، وبهذا تختل المعادلة.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان