أطفال الحرب ... ليث أنموذجا
الساعة 11:19 صباحاً


في 13 مارس آذار 2015م ولد ليث وبعد 13 يوما من ولادته وبالتحديد في 26  مارس آذار 2015 أطلق التحالف السعودي الإماراتي عملياته العسكرية في اليمن تحت مسمى " عاصفة الحزم  " ليبدأ ليث معنا السنوات العجاف من الخوف والرعب والقصف والنزوح والتشرد ، مع دوي انفجار أول صاروخ سقط بالقرب من حينا حيث أهتز المنزل وسقطت بعض النوافذ صرخ ليث فزعا فحملناه على عجل ونحن نتعثر ونجري ونصرخ وكأن القيامة قد قامت للتو ، كانت الزوجة لا تزال مريضة بعد العملية القيصرية التي أجريت لها لكننا هرعنا مع بقية السكان إلى بدروم العمارة المليء بالأثاث المهمل الذي يعلوه التراب وتسرح تحته القوارض ، انتحينا نحن الرجال جانبا وبقيت النساء والأطفال في الجانب الآخر ، كان الصراخ من كل جانب واختلط بكاء النساء مع صراخ الأطفال وصيحات الكبار ، كنا نحاول تهدئة الأطفال ونطمئن بعضنا بأن ما يحدث هو قصف خاطف على المطار والمعسكرات وسيتوقف ، بعد هدوء القصف عدنا إلى الشقة وما كدنا نصل حتى عاودت مقاتلات التحالف القصف فعدنا إلى البدروم مرة أخرى .!
وبقينا على هذا الحال أسابيع وأشهر في جو من الرعب ، ليث يصحو فزعا ويظل يصرخ لقد أصيب الطفل بصدمة ورعب أثر على صحته ولم يستطع النطق حتى الآن ، ما يزال يتأتأ ببعض الكلمات كما أصيب بصور ذهني بسبب الفزع .
نزحنا من المنزل الكائن في حي النهضة قرب الفرقة الأولى مدرع إلى حي عصر ، فررنا من قصف الفرقة إلى قصف جبل عطان الذي ظل هدف ثابتا لمقاتلات التحالف لسنوات ، ليث وأمه وأخته ذات الست السنوات حينها أصيبوا بنوبات فزع وتشنج مستمرة ، كانوا ينامون لدقائق فقط ويصحون فزعا وكنت أقضي وقتي ساهرا أهدئ من روعهم وأعطيهم أقراص الدواء المنوم ولم أعد أتذكر : متى كنت أنام ؟!
ولأن الشقة التي كنا نستأجرها في حي النهضة قد تطايرت نوافذها بسبب القصف المتواصل على معسكر الفرقة المجاور فصارت الرياح تزوبع فيها فقد تركناها وغادرنا إلى منزل أحد الأقارب بحي عصر والذي كان مسافرا خارج اليمن ، تركنا أثاثنا للأقدار ، لم نكن ندري متى سنعود وكيف سيكون الحال في الغد وإلى أين سنمضي ؟!
ومضت الأيام وليث ما يزال عاجزا عن النطق ومصابا بالقصور الذهني كما أصبت أنا بمرض السكري بسبب الرعب والخوف حيث عاينت الموت مرات عديدة ، بحثنا عن طبيب لعلاج ليث ولكننا لم نجد سوى عبارة " ننصحكم بالسفر إلى الخارج " ومع هذا بقينا في صنعاء بين الخوف والرعب وتحت القصف من 26 مارس آذار 2015 إلى 26  أبريل نيسان2018  حيث غادرنا صنعاء إلى مصر للعلاج وبعد رحلة طويلة وشاقة من صنعاء إلى سيئون وبعد انتظار لأسابيع فيها تمكنا من السفر إلى القاهرة .
في صنعاء كان كل من يلقاني ينصحني بالسفر فكوني صحفيا فهذا يعني أنني في خطر وعرضة للاختطاف من قبل الحوثيين لكنني قررت البقاء رغم الخطر ، خطر القصف العشوائي الأعمى لمقاتلات التحالف وخطر الاعتقال بسبب وشاية رغم أني قد توقفت عن الكتابة ولكن عندما تدهورت صحتي بشكل كبير اضطررنا للسفر .
ثلاث سنوات في صنعاء لم يغمض لي جفن ولم أذق طعم النوم بعمق ولم أعش يوما بطمأنينة ، كان خوفي من القصف أكثر من خوفي من الاختطاف وكان حال الطفل ليث قد أضاف لي هما آخر إلى همومي الكثيرة ، أشتعل الرأس شيبا وأحسست أنني قد دلفت إلى مرحلة الشيخوخة خلال سنوات .!
 ليث طفل الحرب الذي عانى الكثير وفقد قدرته على النطق وتعرض معنا للمعاناة والخوف والنزوح والتشرد ولكني أعزي نفسي بأن طفلي أفضل حالا من ملايين من أطفال كثيرون قتلوا بالقصف وبالخوف والمرض وبرصاص الأطراف المتحاربة في مناطق عديدة ، أطفال أصيبوا بجروح وآخرون فقدوا أطرافهم وغيرهم فقدوا عائلهم وتشردوا وتوقفوا عن التعليم وزج بهم في جبهات القتال ، لقد رضعوا المآسي والمعاناة ودفعوا ثمن الحرب التي يتاجر بها الكبار .
في القاهرة ذهبنا إلى طبيب متخصص في التخاطب والقصور الذهني ، كنا نسافر من حي الفيصل إلى مدينة مصر الجديدة كل يوم لكي يتلقى ليث دورس في التخاطب وتقوية الذهن ، نصرف يوميا ما يقارب 400  جنيه تكاليف المواصلات فقط وهي حوالي ( 15 الف ريال يمني ) هذا غير تكاليف الجلسات وخلافه ، بعد 20 يوما اضطررنا للتوقف بعد ان أرهقنا ماليا ولم يعد علاج ليث يمثل لنا أولوية .!
فررنا من الخوف والرعب والقصف إلى الغربة ، والغربة حرق للعمر ، جربناها لسنوات ووجدناها أمر من العلقم حتى لو كانت الأسرة كلها معا فقد بقينا في غربة وظلت في قلوبنا وحشة وفي حياتنا أشياء ناقصة وظل فينا شيئا من الذل والانكسار والشوق لليمن بكل ما فيه .
أسأل ليث : ماذا تتمنى أن تكون عندما تكبر ؟ فيحدق في ببراءة دون جواب فتتداعى في قلبي جدران كثيرة من الأحلام والطموحات وأشعر أن شراييني وأوردتي تتمزق حزنا على طفلي الذي يدفع ثمن الحرب التي لم يكن له ذنبا فيها .
 تمنيت أن يكون ليث كبقية الأطفال يعيش حياته بشكل سوي يلعب ويمرح ويتحدث ثم يدخل الروضة والمدرسة ويعيش حياته كبقية الأطفال ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه .
 قبل أكثر من عام تم ترحيلي من مصر بسبب كتاباتي الناقدة للإمارات والسعودية فعدنا إلى اليمن ، عاد ليث وأمه إلى صنعاء وبقيت في حضرموت ، حاولت أم ليث إلحاقه في رياض إحدى المدارس الأهلية فهو يحتاج رعاية واهتمام من نع خاص ولكنها رغم كل الجهود لم تجد له مكانا فكل المقاعد مليئة . 
عادت الأسرة إلى صنعاء وبقيت في وادي حضرموت أتجول بين المدن والفنادق ومنازل الزملاء الإعلاميين ، أعيش الغربة في حضرموت ، ويعيش ليث الغربة في صنعاء ، تخبرني أمه أن يحدق في صورتي ويقول : بابا ويجهش في البكاء ، فتعود جدران القلب للتداعي وأردد وأنا أذرف دموعي : وأنا اشتقت إليك يا ابن الذين تشردوا ..

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان