بلا عنوان ولا موضوع
الساعة 12:43 صباحاً


بعد ما خلصت بكالورويوس طب من جامعة عين شمس رجعت ع اليمن، استمرت إقامتي حوالي تسعة أشهر. كنت أخلص في ورق المنحة الدراسية الثانية عشان برنامج المجستير في جامعة القاهرة. يومتها عرف الدكتور حسين عطية، رحمة الله عليه، إني في صنعاء. راح مكلمني، وكان المدير الفني في مستشفى جامعة العلوم، أهم مستشفى في حينه. عرض علي وظيفة مدير وحدة VIP clinic.. 
كان عمري بين ٢٥ و ٢٦ سنة. ماكنتش متحمس للوظيفة وشكلها، ومع ذلك وافقت. كانت فترة قصيرة ولكنها غاية في الثراء. أنا شخص لم يعش في أي مدينة يمنية من قبل سوى عامين لإنهاء الثانوية العامة بعد أن طردتني مدرسة القرية بسبب المشاكل التي كنت أتورط فيها، حتى إن الأخ العزيز أحمد الغفوري (والدي) عرض عليا في ليلة من ليال الشتاء إكمال الثانوية في المريخ بعيدا عن عيون البشر (لأنه واضح إنك متعرفش تعيش مع البشر) قال حفظه الله. نتيجة الثانوية العامة لم تفاجئ أحمد الغفوري، قال بثقة أنا داري إنك تحفظ الكتب وتعرف تحل الامتحانات، لو كنت كملت تعليمي كنت بجيب من أوائل الجمهورية زيك، مشكلتك يا إبني إنك بلا أخلاق. وأعاد عليا أبياتا من عنترة تقول لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب، ولا ينال العلا من طبعه الغضب. إلى آخر محفوظات الغفوري من شعر عنترة. 
المهم قبلت الشغل في "وحدة الشخصيات الهامة"، ويومتها التقيت محمد المقالح، وكان نجما في دوشة تلك الأيام، قال لي: وحدة الشخصيات الهامة؟ إحنا نشتيهم يموتوا. 
كان الدكتور طارق سنان أبو لحوم، رحمة الله عليه، متحمسا لفكرة العيادة، وكل شوية يبعث لي دفعة مسؤولين وجنرالات نعمل لهم فحص شامل بالمجان. "افهموا" كان يقول لنا بعد ما يبلغنا خبر الضيف القادم. ولأن العيادة كانت مساحتها كبيرة فالمستشفى أعطت غرفة فيها لطبيب خواجه اسمه لايوش، من هنغاريا. كان لايوش في مطلع الخمسينات، طبيب عظام وسيم بسكسوكة، يجي كل يوم كم ساعة في المسا، يعالج فقط مرضى بعض الشركات النفطية وأسر بعينها (؟).

مرة خبطت على غرفته، قال ادخل، دخلت. لقيت عنده بنت في مطلع العشرينات، لابسة عباية واسعة، سكرت الباب، قال اتفضل ادخل، دخلت مرة ثانية. قام عرفني على المريضة اللي كانت جالسة قبالته على كرسي، وتتحدث بلغة انجليزية ممتعة، لغة تختلف كليا عن لغتنا اللي كان الدكتور أسامة محمود - ربنا يطول في عمره - يسميها انجليزي المصانع الحربية.

تلك الفتاة ستصبح، بعد سنوات عديدة، نجمة على التلفزيونات الأجنبية، متحدثة عن شؤون اليمن. 

قال لها لايوش، متحدثا عني، وكان دائم المرح يشرب أشياء رائعة في طريقه إلى العمل:
هذا زميلي مروان الغفوري، طبيب كما تلاحظين. 
الفتاة تنقل بصرها بيني وبينه.
واصل كلامه: إذا قلت لك إنه موهوب فأنا أعني ما أقول، وليس هذا ما يهم في أمره.
هزت رأسها، كأنها مستعدة لتلقي طرفة:
أها
واصل حديثه:
يعاني الشاب من مشكلتين أساسيتين. الأولى أنه درس في مصر. الثانية أنه من تعز. المشكلتان تجعلان منه شخصا خطرا للغاية.
قالت الفتاة بانفعال مبتكر:
وااات، إز إت أ بروبليم تو بي فروم تايز؟
قال لها:
أ فيري فيري بيج بروبليم. 
واصل شرحه لنظريته:
يعتقدون أنهم أذكى الناس، ولا يقف اعتقادهم عند هذا الحد بل يتعاملون مع العالم كحفنة من الأغبياء والجهلة. لا يسيرون أبدا في خط مستقيم. مشيهم كله زجزاج (وقام يحرك كفه أمامها بطريقة ثعبانية)، إنهم خطرون للغاية. 

تبادلت الحديث مع الفتاة الأنيقة والمثقة، وإذا لم تخني الذاكرة فقد قالت إنها تدرس فاين آرتس في نيويورك أو سمثنغ لايك ذيس. واصلنا الحديث في غرفة الانتظار، وأهديتها فورا كتابا لي كان قد صدر للتو من الهيئة العامة للكتاب (في انتظار نبوءة يثرب) وهو كتاب لم أقرأه قط، منذ صدوره، ولا أنصح بقراءته. بين صفحات الكتاب تركت لها، بعد أن استأذنتها، الكارت دو فيزيت (بطاقة الزيارة). فجأة خرج لايوش من غرفته، أخذ الكتاب من يدها وفتشه، عثر على الكارت، شاله ورماه في الزبالة في مشهد مسرحي مثير. أعاد لها الكتاب وقال بلطف: الآن أنت آمنة. 

أتذكر تلك الأيام، وملاحظة السيد لايوش عن ما يمكن تسميته بالشخصية التعزية، وهي شخصية غنية ب"السمات الخاصة" التي تجعلها بالفعل مستعدة لصناعة اللااستقرار، مستندة إلى خيال خاص عن الذات والعالم. في تلك الأيام التقيت المثقف الحر حاتم أبو حاتم، رحمه الله، في الدور الأول من مبنى وزارة التعليم العالي. أخذنا الحديث لساعة زمن. قال أبو حاتم إن المثقف، وانزلقت لسانه قليلا تجاه تعز،  هو من ساهم في صناعة هذا الديكتاتور الجاهل، ليس عبد الله الأحمر ولا حاشد، بل مثقف مثل عبد العزيز عبد الغني، قدم من الخارج وقال للرئيس الخائف والمرتبك: البنك شأن من شؤون الرئاسة. تلك الفكرة المدمرة ما كانت لتخطر على باله، لما للبنك من جلال ومهابة، لو لم ينظر لها المثقف القادم من الأسفل. المثقفون هم من يصنع الدكتاتور وليس القبائل. ثم توقف قليلا وقال وهو يحرك يده: شوف.

إلى آخره ..

وبعد الحرب، ٢٠١٥، عاد رجال ونخب قبيلة الحجرية، واحدة من أكبر القبائل، إلى تعز واكتشفوا حقيقة استعلوا عليها زمنا.  بينما رحلوا إلى الشمال والجنوب على هيئة مهنيين وفلاسفة صغار تسلل رجال جبل حبشي، صبر، شرعب، ومخلاف إلى مدينة تعز وتوغلوا فيها وستصبح في قبضتهم. 

تخيلت المشهد في ٢٠١٥ لأول مرة وقفز إلى بالي سيناريوهان اثنان: الأول سلام حذر في تعز، الثاني فوضى انتحارية.
مع الأيام تحقق السيناريو الثاني، فلديك مدينة كبيرة جدا يمشي أهلها على شكل زجزاج! 

بقي ذلك النهار في بالي عندما صحبتني العزيزة سيلين الجزيري في شوارع باريس، قبل ستة أعوام. وقفنا أمام مدرسة، قالت سيلين هذه المدرسة تستقبل فقط مثيري المشاكل والطلبة المجرمين من عموم مدارس باريس. هنا يعيش الطالب مثير المشاكل جنبا إلى جنب نظيره، وكلاهما يعلم أن الآخر مؤذ مثله، فيحل نوع خاص من السلام "توازن الرعب". كان هذا السيناريو ممكنا في تعز، وربما سيناريو أفضل منه بعد عودة مثيري المشاكل من كل القرى إلى قريتهم الوحيدة. 

الحقيقة أني لا أعول كثيرا على تلك المحافظة. تحدثت إلى مثقف عاقل (تبدو كلمة عاقل حاسمة بسبب ندرتها) فقال لي إنه التقى محافظ شبوة وخاضا حديثا حول بنية الدولة وفلسفتها. قال "المثقف اللامهفوف": 
"كنت اندهش لهذا البدوي الذي يتحدث عن السياسة بلغة  تتجاوز لغة مثقفي تعز ، اما تجربتهم فتابع اداء الاحزاب هناك، انضج من تجربة التعزيين اللي يتحكولوا بوبالي" ..

وجدت جملة "التعزيين اللي يتحكولوا بوبالي" غنية بكل ما يمت للحقيقة والفانتازيا بصلة.. 

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان