لم أعد بحاجة إلى بلد
الساعة 10:45 صباحاً

 لا كتب تاريخ ولا حدود على البحر. ولدت ولم يكن هناك، أو كان هناك ولم يكن ومضيت أقاتل لاسترداده من أولئك الذين لم يسبق لهم أن رأوه. لكنني الآن، ولأول مرة، لم أعد بحاجة إليه فلدي ما يكفي من الأخبار عنه، من الأغاني الغارقة في القدم، من أسماء الحبيبات لدي ما يكفي من أسماء الأنهار، والقصص من الخرائط واللهجات. لم أعد بحاجة إلى بلد تعرفت على ألفي نوع من الخبز، ومائة نوع من الحمى وأستطيع أن أحدثكم لعام كامل عن الفرق بين جبل وآخر أعرف لحظة دخول التهامية في الحب وخروج الصنعانية منه وباستطاعتي أن أخبر الحضرمية عن آخر مرة رأت فيها البحر. أبقاركم وشياهكم خلقت كلها في رئتي ثم تنفستها شاة شاة، وبقرة بقرة على أعقاب هزائمي. لم أعد بحاجة إلى بلد، أصبحت قادراً على تمييز دخان القرى وقصص الجنازات أعرف متى سيعود المحارب بالهزيمة ومتى سينسى المعركة حفظت أسماء الشهداء والكمائن رسمت الغارات على ظهري، غارة غارة عجنت بدمي القرى والتباب خلطت العود والزوامل وأرسلت أولادي إلى الجبهات ليغيروا أسماء القتلى وليتعرفوا على الخونة المساكين، وليكذبوا على الجرحى. لم أعد بحاجة إلى بلد، ولن يفزعني المحتلون الجدد ولا القدامى ها أنا الآن على سطح العالم، أسمع الموسيقى الحضرمية أعد السلتة، وأغمس الباخمري في "الشاي الملبّن" وقبل ساعات عرفت اسم أسرة تقيم في سطح العالم تصنع الهريسة والحلاوى الخلطة. انظروا كيف تصاعد دخان قريتي، وأين بلغ. لم أعد بحاجة إلى بلد. فما الذي سيظفر به الغزاة من تركة جدي؟ جدي الذي لفرط خوفه على بئره الوحيدة وفرسه الماكرة تزوج خمس نساء فانتشرت رائحته في القرى كلها، وتجاوز معضلتي الموت والهزيمة. ما الذي استطاعوا أن ينهبوه؟ ليبحثوا عن تلك الرائحة، ليجدوها. لا أسماء الجبال، ولا الفروق العبقرية بين واد وآخر لا سحر الفقر، ولا الأبدية العارية ليدخل الغزاة إلى بحارنا، سنخرج من الحقيقة إلى المجاز سيطلبون منا مغادرة الجزر وسنذهب إلى سطح العالم لنصنع الهريسة وسيعلم كل من يرى نيراننا هناك، على سطح العالم، أننا دخلنا في المجاز، وسيرددون اسم بلادنا. الحق أقول لكم: إن الهريسة أبقى من الحقيقة. ستدخل الجيوش إلى بلدي، ستفعل كل شيء: ستسيطر على الفيزياء. ليفعلوا ذلك فلم أعد بحاجة إلى بلد لقد حمّلته إلى رئتيّ وتركته ليسيل في الأوردة حتى يبلغ الجزر والمحيطات والوديان حتى يبلغ شاطئ الخلية الأبعد، الخلية التي لا تصلها الشمس، ولا تعرفها السفن ولا يمكن للغزاة أن يغيروا اسمها.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص

كاريكاتير

بدون عنوان